الصين وروسيا: علاقة استراتيجية أم تحالف غير مقدس؟
لم يجد الرئيس الروسي فلاديمير بوتِن متنفسا غير اللجوء إلى الصين لإنقاذه من ورطته الأوكرانية، التي قد تكلف روسيا علاقاتها الاقتصادية المتطورة مع أوروبا، إضافة إلى زيادة قلق جيرانها من طموحاتها ومخططاتها المستقبلية، الأمر الذي سيدفعها أكثر نحو حلف الناتو.
غير أن الصين لها مصالح اقتصادية وطيدة مع أوروبا وأمريكا وباقي دول العالم المهمة، بل حتى مع أوكرانيا، وهي تسعى لتطويرها وإزالة العقبات عن طريقها. فإلى أي مدى يمكن الصين أن تدعم روسيا في أزمتها الحالية؟ وماذا سيكون موقفها لو أن روسيا أقدمت فعلا على غزو أوكرانيا؟
الأزمة الروسية الأوكرانية بدأت تخنق روسيا، وتدفعها إلى التحالف على أسس غير متكافئة مع جارتها الجنوبية الشرقية، ومنافِستِها الشيوعية السابقة، من أجل أن تسعف اقتصادها وتجد بدائل لصادراتها من الطاقة، ومصادر جديدة للاستثمارات، قبل أن تفرض الدول الغربية مجتمعة عقوبات إضافية عليها، إن هي أقدمت على مغامرة جديدة في أوكرانيا.
فالولايات المتحدة كانت قد فرضت عقوبات على روسيا عام 2014، إثر استيلائها على شبه جزيرة القرم التابعة لأوكرانيا، وفي ظل إدارة الرئيس جو بايدن، سعت حثيثا لتضييق الخناق، اقتصاديا وسياسيا، على روسيا، وحاولت إقناع ألمانيا بالتخلي عن الخط الاستراتيجي الناقل للغاز من روسيا إلى أوروبا، ولكن دون جدوى.
غير أن ألمانيا دولة غربية في النهاية، وعضو في حلف الناتو، ولن تحيد عن الإجماع الغربي إن كان هناك إجراء مشترك ضد روسيا، بينما ستتضرر روسيا كثيرا إن استغنت أوروبا عن الغاز الروسي، لأنها تعتمد بالدرجة الأساس على صادراتها من المواد الأولية. ومن الجدير بالذكر أن خط (نورد ستريم2) لم يبدأ العمل بعد، رغم اكتماله في سبتمبر 2021، ما يعني أن الاستغناء عنه لن يحدِث ضررا آنيا على الاقتصاد الالماني.
الدول الأوروبية الأخرى ستجد نفسها في حرج شديد إن حصل أي تطور عسكري في ملف أوكرانيا، لذلك ستضطر إلى تشديد العقوبات على روسيا وإيجاد بدلائل لواردات الطاقة الروسية، حتى وإن كان على الأمد البعيد.
لم تعترف أي دولة حتى الآن، بما في ذلك الصين، بشرعية ضم روسيا لشبه جزيرة القرم، وليس متوقعا أن تفعل أي دولة ذلك في المستقبل، لأن مثل هذا الاعتراف سيعني القبول بسيادة مبدأ (الحق مع القوي) الذي كان العالم قد تخطاه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، أو على الأقل منذ انتهاء الحرب الباردة، بعد انهيار الأنظمة الشيوعية عام 1991.
لا يمكن أي دولة، خصوصا الدول العظمى، أن تشرعن احتلال أجزاء من دول أخرى مستقلة، وضمها من قبل دول أقوى منها، وليس متوقعا أن تتجاهل الصين هذا المبدأ، وهي التي لم تُقدِم على ضم تايوان، التي تعترف معظم دول العالم، بما فيها تايوان نفسها، بأنها جزء من الصين، وأن هناك صينا واحدة، لا اثنتين. الصين تعلم جيدا أن تايوان دولة مستقلة فعليا منذ سبعين عاما، ولها نظام سياسي واقتصادي مختلف، ولها علاقات دولية مستقلة، خصوصا مع الولايات المتحدة، التي شرَّعت قانونا أمريكيا ملزِما بأن تنتصر لتايوان إن تعرضت إلى هجوم خارجي. لذلك احترمت الصين، وإن مضطرةً، حق تايوان في الوجود والعيش في ظل نظام مختلف عنها، خصوصا وأن أي تحرك ضدها سيخلق أزمة خطيرة مع الولايات المتحدة ودول أخرى.
لا شك أن العلاقات المتعثرة بين كل من الصين وروسيا من جهة، والولايات المتحدة وأوروبا الغربية وحلفائهما في آسيا وأمريكا وأستراليا، من جهة ثانية، ستعمل على تقارب الصين وروسيا. فروسيا ستستخدم العلاقة المتطورة مع الصين للضغط على أوروبا وأمريكا، والإيحاء لهما بأنها يمكن أن تستغني عن صادراتها إلى أوروبا، عبر إقامة شركة غازبروم الروسية خطا ناقلا للغاز إلى شمال الصين يمر عبر منغوليا، المحصورة بريا بينهما، وأن بإمكانها أن تستغني عن وسائل الدفع المصرفية العالمية بالدولار، عبر إيجاد آلية جديدة للدفع المالي، التي تفكر الصين بتصميمها كي تعمل خارج النظام المالي العالمي.
البيان الصيني-الروسي المشترك يقول إن “الصداقة بين روسيا والصين لا حدود لها”. لكن الحقيقة أن هناك تضاربا في المصالح، وما يجمع البلدين حاليا هو المشاكل القائمة لكل منهما مع الولايات المتحدة وأوروبا وحلفائهما، وإن كانت مشاكل الصين مع الدول الغربية اقتصادية بالدرجة الأولى، وهذه يمكن تسويتها، بل لابد أن تسوَّى في قابل الأيام، فإن المشكلة مع روسيا أعمق بكثير، خصوصا محاولتها فرض وجودها بالقوة العسكرية كقوة عظمى، مع أنها دولة ريعية تعتمد بنسبة 65% على إيراداتها من بيع المواد الأولية، كالنفط والغاز، إلى دول العالم الأخرى.
ويضيف البيان الروسي-الصيني أن الدولتين “ترفضان التدخل في شؤون الدول الأخرى”، لكنه يصمت إزاء التدخل الروسي في أوكرانيا، ما يعني أن الصين غير منسجمة مع التوجهات الروسية التوسعية. هل تستطيع الصين أن تهضم التدخل الروسي في أوكرانيا، وهي التي تقيم علاقات اقتصادية وسياسية متطورة معها؟ وإن صمتت حول هذا الأمر، أليس محتملا أن تُقدِم روسيا على مغامرة أخرى قد تكون أكثر ضررا على الصين؟
لا يمكن القول إن البلدين منسجمان في توجهاتهما السياسية والاقتصادية، لكن هناك مصلحة لكل منهما في التقارب، كي يسندا مواقف بعضهما بعضا أمام خصم مشترك. صحيح أن حجم التبادل الاقتصادي بينهما قد وصل إلى 146 مليار دولار عام 2021، حسب قول الرئيس بوتِن، أو 115 مليار دولار حسب أرقام الجمارك الصينية، وفي كلتا الحالتين فإنه يبقى متدنيا مقارنة مع حجم التبادل التجاري الصيني مع الولايات المتحدة البالغ 755 مليار دولار (حسب غلوبال تايمز الصينية)، ومع الاتحاد الأوروبي الذي تجاوز 709 مليار دولار عام 2020 (بي بي سي)، ومع دول مجموعة آسيان البالغ 310 مليار دولار (وكالة شنهوا الصينية)، بينما بلغت إيرادات المشاريع الصينية في دول آسيان 350 مليار دولار (شنهوا).
طبيعة السياسات التي تتبعها الصين وروسيا تختلف بسبب اختلاف نظامي الحكم فيهما. فبينما يحكم الصين حزب أيديولوجي منظم ومنتشر وراسخ الجذور، وتبرز قياداته عبر الترقيات الحزبية والانتخابات والأداء الناجح للأعضاء، فإن روسيا تحكمها مؤسسة أمنية سرية متمرسة، يقودها رئيس الدولة الذي تربى فيها منذ بدء حياته المهنية، وهو يحمل طموحات عريضة للدولة الروسية، تتعلق بإعادة أمجادها السابقة ونيلها الأهمية التي (تليق) بتأريخها وموقعها في العالم.
وفي الوقت الذي تعطي فيه الصين أولوية للتنمية الاقتصادية والعلمية وصناعة الثروة، التي تعتبرها الأساس الرصين لتوسيع النفوذ والهيمنة، فإن روسيا تنتهج مسارا معاكسا، وهو كسب النفوذ والهيمنة بالقوة العسكرية التي تمتلكها منذ أيام الإمبراطورية السوفيتية.
يعوِّل بوتِن كثيرا على علاقته بالصين، لدرء الأخطار الناجمة عن سياساته المناهضة للغرب الديمقراطي، لكن الجلي في هذه العلاقة، أنها لم تبنَ على أسس استراتيجية رصينة، بل تميل إلى كونها تحالفات وقتية يستفيد منها الطرفان، ووسيلة ضغط يمكن أن تحقق مكسبا هنا وتنازلا هناك لكل منهما.
روسيا تلجأ إلى الصين مضطرة تحت الضغوط الاقتصادية والعسكرية والدبلوماسية الدولية، كي تعزز، أو تنقذ، مواقفها المتشددة، وغير المتكافئة مع قوتها الاقتصادية ونفوذها الدولي، بينما تنتفع الصين من هذا الاضطرار الروسي عبر تحقيق مكاسب اقتصادية، من خلال توسيع الاستثمارات الصينية في روسيا، والاستفادة من صادراتها من الطاقة.
ويقول ألكساندر غابويف، مدير قسم روسيا في مركز كارنيغي في موسكو لبي بي سي، “إن روسيا هي الجانب الأضعف على الأمد البعيد في العلاقة مع الصين، وإن الخلافات الحدودية سوف تسمم العلاقة بين البلدين”..
التوسع الروسي، العسكري-الدفع، ليس في مصلحة الصين على الأمد البعيد، لأن الدولة الصينية غير مستعجلة لتحقيق أي نصر على أي من خصومها، فهي واثقة من رصانة قوتها الاقتصادية ومن أهمية مكانتها الدولية، على العكس من روسيا التي يرى قادتها، على ما يبدو، أن الزمن يسير باتجاه معاكس لطموحاتهم. فإذا ما أصبحت أوكرانيا وباقي دول الاتحاد السوفيتي السابقة دولا ديمقراطية، وقوية اقتصاديا، ومحمية عسكريا، عبر عضويتها في حلف الناتو، فإن ذلك سيكون على حساب النفوذ الروسي في المنطقة.
لقاء الرئيسين، شي جينبيغ وفلاديمير بوتِن، هو الثامن والثلاثين حتى الآن، ومعظم هذه اللقاءات قد حصلت بعد عام 2014، إذ تولى الرئيس شي الرئاسة في عام 2013، ما يشير إلى السعي الروسي الحثيث للاستفادة من قوة الصين للضغط على خصومها، خصوصا بعد ضمها شبه جزيرة القرم. لكن الصين لن تفرط بمستقبلها الاقتصادي وعلاقاتها الدولية ومكانتها العالمية من أجل مساعدة روسيا على تحقيق طموحات غير مشروعة. المديح الذي أسبغه الرئيس بوتِن على الرئيس شي في زيارته الأخيرة، إذ وصفه بالصديق الحميم، هو للمجاملة، فلا يمكن أن تؤثر المجاملات كثيرا في العلاقات الدولية، التي تُبنى وتزدهر عبر خدمة المصالح المشتركة فحسب. كذلك فإن وصف بوتِن العلاقة مع الصين بأنها “علاقة صداقة وثقة متبادلة تمتد لقرون عديدة”، هو الآخر مجاملة لا تؤيدها الحقائق التأريخية.
الجانب الإيجابي في علاقة البلدين، هو أن رصانة السياسة الصينية، وبعد النظر الذي يميزها، سوف ينعكسان على السياسة الروسية، ويقللان من حماسة الرئيس بوتِن للهيمنة على الدول المجاورة. وعلى الرغم من أن الصين نفت أن يكون الرئيس شي قد نصح الرئيس بوتِن بالعدول عن غزو أوكرانيا، إلا أن مثل هذه النصيحة متوقعة. فلابد أن الرئيسين قد بحثا المسألة الأوكرانية، ولا شك أن الرئيس الصيني قد عبر عن الموقف الذي ينسجم مع المصالح الصينية، وهذا، لا شك، يتعارض مع التوجهات الروسية.
ومهما كانت العلاقة الروسية الصينية مهمة للبلدين، فإن من غير المتوقع أن تغامر الصين بعلاقاتها المتطورة مع الدول الغربية من أجل إسعاف روسيا ومساندتها في مشاريع لا تتفق معها. والأهم من ذلك، فإن النظام المالي الصيني يعتمد كليا على الدولار، حسب جود بلانشيت، رئيس قشم الدراسات الصينية في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية في واشنطن، وأي عقوبات أمريكية على روسيا، سوف تعيق التعاون الصيني معها، خصوصا مع صعوبة تطوير آلية للتعامل المصرفي خارج النفوذ الأمريكي.
لا شك أن العلاقات الصينية الروسية قد تطورت كثيرا بعد غزو روسيا لشبه جزيرة القرم عام 2014، لكن هناك حدودا لمثل هذا التقارب، وقد تجد الصين نفسها مضطرة للاعتراض على السياسات الروسية، وربما فرض عقوبات عليها إن هي تجاوزت على سيادة الدول الأخرى. فالمصلحة الصينية تكمن في احترام القانون الدولي وطمأنة الدول الأخرى بأنها ستقف مع الشرعية الدولية وسيادة الدول الأخرى على أراضيها.