المغرب العربي

العاهل المغربي: العدالة الانتقالية تجربة مغربية فريدة ورائدة


أكد العاهل المغربي الملك محمد السادس أن مسيرة العدالة الانتقالية بالمغرب شكلت تجربة متفردة ورائدة، مشيرا إلى أن هيئة الإنصاف والمصالحة تمثل امتدادا للهيئة المستقلة لتعويض ضحايا الاختفاء القسري والاعتقال التعسفي التي أحدثها الملك الراحل الحسن الثاني، بينما تقيم المنجزات المحققة في هذا المجال الدليل على نجاعة الاستفادة من التجارب الماضية وتطويرها لتشمل جميع المجالات سواء التنموية أو الحقوقية.

وشكّلت هيئة الإنصاف والمصالحة التي أحدثت في يناير/كانون الثاني 2004 نموذجا رائدا للعدالة الانتقالية في العالم العربي والإسلامي بالنظر إلى مميزاتها وأهدافها، ما جعلها تحظى بإشادات دولية واسعة، بينما لم يأت هذا النجاح من فراغ بل كان ثمرة خبرة في مجال تعزيز مكتسبات حقوق الإنسان وحماية الحريات.

وقال الملك محمد السادس في رسالة وجهها اليوم الجمعة إلى المشاركين في المناظرة الدولية حول العدالة الانتقالية بمناسبة الذكرى العشرين لتأسيس الهيئة أنها “كانت تهدف أساسا، علاوة على تحقيق المصالحة الوطنية ومعالجة انتهاكات الماضي، إلى جعل العدالة الانتقالية ضمن أولويات خيار الانتقال الديمقراطي”، وفق وكالة المغرب العربي للأنياء.

 وأشار إلى “تبلور رؤية استباقية لدى المغاربة حينها، دولة ومجتمعا، لعمق التحولات التي دخلها العالم نهاية الثمانينات من القرن الماضي، ولأهمية القيم الديمقراطية وحقوق الإنسان، ضمن الاختيارات السياسية الاستراتيجية”.

وأوضح أن “العدالة الانتقالية في المغرب استندت على أسس صلبة، منها التاريخية المرتبطة بخصوصية الشخصية المغربية، ومنها المجالية والجغرافية”.

وأشار إلى أن “الهدف الأساسي هو الاهتمام بكل الضحايا، على اختلاف مشاربهم وتوجهاتهم، والانكباب على كل الانتهاكات المرتبطة بحقوق الإنسان، من السنوات الأولى للاستقلال، إلى تاريخ إحداث هيئة الإنصاف والمصالحة”.

وتابع أن “المغرب نجح في تحديد وتحليل كافة أشكال وأوجه الانتهاكات التي شهدتها البلاد في الماضي، كيفما كان نوعها وحجمها، والقيام بالتحريات الميدانية والتحقيقات اللازمة، وتنظيم جلسات استماع عمومية، في المدن والقرى، وأخرى لاستقاء الشهادات، بهدف كشف الحقيقة المتوفرة، وجبر الأضرار الفردية والجماعية، مع مراعاة بعد النوع وبالتالي تعزيز المصالحة بين المجتمع المغربي وتاريخه”.

وسلط الملك محمد السادس الضوء على الجوانب المميزة للتجربة المغربية ومن بينها انخراط المجتمع المدني بكل أطيافه في بلورة وإنجاح العملية، لافتا إلى أن قرار العدالة الانتقالية لعب دورا هاما في “فتح الفضاء العام أمام نقاشات عمومية، وحوارات مجتمعية، حول مختلف الإصلاحات والقضايا الجوهرية التي تحظى باهتمام الرأي العام الوطني”.

وتطرقت الرسالة إلى النتائج التي حققتها كافة المبادرات المتعلقة بالعدالة الانتقالية من بينها تعزيز الوعي الجماعي بشأن مناهضة انتهاكات حقوق الإنسان، ما أدى إلى استخلاص الدروس من هذه التجربة، فضلا عن “التأكيد على ضرورة مواصلة ترسيخ أسس دولة القانون، بما يضمن احترام الحقوق والحريات وحمايتها، ويوازن بين الحق في ممارستها، بروح المسؤولية والمواطنة الملتزمة، والتقيد بالنهوض بالواجبات”.

وشدد على أن “مسيرة العدالة الانتقالية بالمغرب شكلت تجربة متفردة ورائدة، أحدثت طفرة نوعية في المسار السياسي الوطني ومكنت من تحقيق انتقال ديمقراطي سلس ومتوافق بشأنه، وإقرار ممارسات فضلى على درب استكمال بناء أسس دولة الحق والمؤسسات”.

وأضاف “تسنى من خلال توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة وضع إطار ناظم لإصلاحات مجتمعية واسعة، بما فيها الدستورية والتشريعية وإنشاء آليات تشاورية ومؤسساتية، بهدف القطع مع انتهاكات الماضي، وترسيخ تدبير عمومي يعتمد قواعد دولة الحق والقانون وإبراز ديناميات مجتمعية متجـددة”.

وقال “من هذا المنطلق حرصنا على أن نعطي لحقوق الإنسان في الدستور وفي القوانين وفي السياسات العمومية مدلولها الواسع، الذي يمتد من السياسي إلى البيئي، مرورا بالاقتصادي والاجتماعي والثقافي كما أحدثنا المؤسسات والآليات الدستورية الضرورية لحماية حقوق الإنسان في أبعادها المختلفة”.

وشدد الملك على حرصه الشخصي على إعمال مفهوم العدالة المجالية في السياسات الإنمائية، ودمج مفهوم جبر الضرر الجماعي في خططنا الإنمائية، ورفع التهميش عن المناطق والمجالات التي لم تستفد من التنمية، بالقدر المطلوب والممكن، ومن عائد التقدم الذي تحققه المملكة.

وأكد أن الأمر يتعلق بمصالحات كبرى مع التاريخ ومع المجال، لافتا إلى أن “هذا الحرص مكن عددا من مناطق المغرب التي كانت تعاني من نقص كبير في التنمية، من تدارك هذا النقص، بل إن من بينها ما أصبح نموذجا في التنمية المجاليـة”.

وتابع أن “العالم اليوم والمراقبين الموضوعيين يشهدون بثمار النموذج التنموي الجاري تنفيذه في أقاليمنا الجنوبية في إطار التضامن والتكامل والعدالة المجالية بين أقاليم المملكة”.

وقال إن “وجه أقاليمنا المسترجعة تغير نحو الأفضل، وأصبحت منطقة جاذبة للاستثمارات، وهي اليوم تزخر بالمشاريع التنموية، والمنشآت والتجهيزات الكبرى”.

ولفت الملك إلى أن “المغرب، بفضل هذه التجربة التي حظيت بإشادة دولية واسعة وتنويه كبير، كان سباقا لإدخال مفهوم العدالة الانتقالية إلى محيطه العربي والإفريقي، حيث تردد صداها في العديد من بلدان منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا”، مؤكدا أن “النموذج المغربي مكن من المساهمة بشكل كبير في تطوير مفهوم وتجارب العدالة الانتقالية والدفع بها إلى آفاق جديدة، ليس فقط على المستوى الإقليمي، بل أيضا على المستوى القاري والأممي”.

وأكد أن “ما أنجزناه على طريق صيانة حقوق الإنسان وضمان احترامها، وفي مجال التنمية وبناء المؤسسات الديمقراطية، لا يعني الكمال، ولكنه، كما يشهد بذلك العالم، نموذج ديمقراطية أصيلة ومتأصلة صاعدة”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى