حصري

الفاشر.. التحقيق المفتوح في قلب دارفور


من يراقب المشهد في السودان يكتشف أن مدينة الفاشر تحولت إلى “صندوق أسود” للحرب، حيث تختزن كل تناقضاتها: انهيار مؤسسة الجيش، صعود قوات الدعم السريع، انهيار الوضع الإنساني، ودخول المجتمع الدولي بخيوط مبادرات معقدة. هذه المدينة، التي كانت قبل سنوات مركزاً تجارياً وثقافياً مزدهراً، أصبحت اليوم مختبراً سياسياً يحدد مَن سيملك المستقبل في السودان.

الميدان أولاً: أين يقف الجيش؟

شهادات من مصادر محلية في شمال دارفور تكشف صورة قاتمة: الجيش السوداني تراجع في أكثر من موقع استراتيجي حول الفاشر، تاركاً فراغاً أمنياً استغلته قوات الدعم السريع لتوسيع نطاق سيطرتها. وحدات كاملة أُجبرت على الانسحاب بسبب ضعف الإمداد، فيما يشتكي الجنود من غياب خطة مركزية واضحة لإدارة المعركة.
هذه الوقائع تؤكد أن المؤسسة العسكرية التي طالما قُدمت كحائط الصد الأخير للدولة السودانية تعيش حالة ترنّح حقيقية. والنتيجة: فقدان السيطرة على مدينة تعتبر مفتاح دارفور، وبالتالي مفتاح توازن القوى في البلاد.

الدعم السريع.. استراتيجية القوة والشرعية

في المقابل، يخطط الدعم السريع بعناية لاستثمار تقدمه. فمصادر ميدانية وتقارير منظمات إنسانية أشارت إلى أن قواته تحاول فرض “انضباط ميداني”، ومنع أعمال النهب، والسماح بمرور شحنات الإغاثة.
هذه الخطوة ليست بريئة، بل جزء من استراتيجية أكبر: تقديم صورة جديدة للقوة التي انطلقت كميليشيا مثيرة للجدل، والآن تريد أن تُقدَّم باعتبارها قوة منظمة تحمي المدنيين وتؤمن المساعدات. بكلمات أخرى: الدعم السريع لا يبحث فقط عن النصر العسكري، بل عن شرعية سياسية بديلة.

التحقيق في ورقة المساعدات

واحدة من أبرز خيوط اللعبة في الفاشر هي ورقة المساعدات الإنسانية. السكان المحليون يؤكدون أن المدنيين يعيشون أوضاعاً كارثية: نقص غذاء، شح مياه، غياب دواء. لكن السؤال هو: من يضمن وصول المساعدات؟
الدعم السريع يروج لنفسه كـ”الضامن” لوصولها، بينما الجيش متهم بالفشل أو حتى العرقلة. هذه الصورة وجدت صدى لدى المجتمع الدولي، الذي بدأ يقرأ المشهد من زاوية إنسانية أكثر منها عسكرية. وهنا تكمن خطورة التحول: المساعدات لم تعد مجرد قضية إنسانية، بل أصبحت أداة سياسية تستخدم في معركة الشرعية.

المبادرة الأمريكية – الخليجية – المصرية: ما وراء الإنسانية

مصادر دبلوماسية كشفت عن مبادرة تقودها الولايات المتحدة، بالشراكة مع الإمارات والسعودية ومصر، لإيجاد ممرات آمنة لإيصال المساعدات إلى دارفور، والفاشر تحديداً.
ورغم أن العنوان المعلن هو “الجانب الإنساني”، إلا أن التحليل الاستقصائي يكشف أبعاداً أعمق:

  • اعتراف ضمني بأن الجيش لم يعد قادراً على ضمان الاستقرار.

  • إدماج الدعم السريع بشكل غير مباشر في الحسابات الدولية، باعتباره قوة أمر واقع.

  • محاولة احتواء الكارثة الإنسانية قبل أن تتحول إلى أزمة إقليمية عابرة للحدود.

هذا يفسر لماذا تحركت دول إقليمية كبرى كالسعودية ومصر: ليس فقط بدافع إنساني، بل لحماية أمنها القومي من تداعيات انهيار السودان.

خلف الستار: معركة الشرعية

ما يجري في الفاشر يكشف أن الصراع لم يعد فقط على الأرض، بل على “من يمتلك شرعية الغد”. الجيش يستند إلى إرث الدولة وتاريخه الطويل، لكنه يخسر يومياً على الأرض. الدعم السريع، الذي افتقد الشرعية في بدايته، يحاول الآن بناء صورة جديدة: قوة تسيطر وتخدم المدنيين، وتحظى بقبول دولي متزايد.
التحقيق في هذا المسار يكشف أن المعركة الحقيقية ليست بين جنود ومقاتلين، بل بين مؤسسة قديمة تتهاوى وقوة صاعدة تبحث عن اعتراف.

المدنيون.. الضحية الدائمة

وسط هذا كله، يظل المدنيون في الفاشر هم الضحية الأولى. شهادات النازحين تفيد بأن معاناتهم تتضاعف: الجوع يطرق الأبواب، والمستشفيات شبه مشلولة، والطرق مقطوعة. لكنهم يجدون أنفسهم رهائن لصراع أكبر منهم، حيث يستخدم كل طرف معاناتهم كجزء من معادلة الضغط السياسي.
هذا يثير سؤالاً أخلاقياً خطيراً: هل أصبح المدنيون مجرد “عملة تفاوضية” في لعبة النفوذ بين الجيش والدعم السريع، وبين القوى الإقليمية والدولية؟

الفاشر مرآة السودان

التحقيق في خيوط المشهد يقود إلى نتيجة واضحة: الفاشر ليست مجرد معركة محلية، بل مرآة لأزمة السودان بأكملها. فهي تكشف انهيار المؤسسة العسكرية التقليدية، وصعود قوة بديلة، وتورط المجتمع الدولي في صياغة المستقبل.

إن السيطرة على الفاشر ليست غاية عسكرية فقط، بل مفتاح لتحديد من سيجلس على طاولة التفاوض، ومن سيُعتبر طرفاً شرعياً في اليوم التالي للحرب. ولهذا، يمكن القول إن من يربح الفاشر يربح ورقة السودان كلها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى