يحاول رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي.
أن يعيد للدولة سلطتها على البشر والحجر في كامل جغرافية العراق. أو على الأقل، هكذا توحي القرارات التي يتخذها منذ قدومه للسلطة قبل أكثر من عام. هو يعلم مثل كل العراقيين ما هي التحديات التي تحد من هيبة الدولة وتحاصر صلاحياتها، ولكن المعرفة وحدها لا تكفي، وتشخيص الداء في بلاد الرافدين ليس الخطوة الوحيدة لتحديد الدواء وبدء العلاج.
في الحقيقة، تتعدد مشكلات العراق التي تزداد تعقيداً وترسخاً منذ سقوط النظام السابق قبل نحو عقدين من الزمن. ولكن تلك الدولة التي انهارت بكل مؤسساتها وأنظمتها وقوانينها لا تزال مستعصية على البناء حتى اليوم. ولربما يقضي عامل الزمن، إن تمادى لعقد ثالث، على أي أمل في هذا البناء، خاصة إذا ما بقي النفوذ الإيراني في البلاد على حاله، وظل العراق ساحة صراع دولي.
ما فعله الكاظمي مؤخراً باعتقال قائد الحشد الشعبي في الأنبار قاسم مصلح، واحد من تلك القرارات التي واجهت فيها الحكومة أكثر التحديات تعقيداً في العراق، وهو سلطة الدويلة داخل الدولة. هذه السلطة التي يمارسها اليوم الحشد الشعبي وبقية المليشيات التي تدين بالولاء لإيران، تحت شعار “مقاومة” الوجود الأمريكي الذي بات منبوذاً في البلاد منذ أن تخاصمت واشنطن وطهران وتوترت علاقتهما.
الخصومة التي جاءت بسبب انسحاب الولايات المتحدة في زمن الرئيس السابق دونالد ترامب من الاتفاق النووي الإيراني، هي التي أظهرت المواجهة بين الدولة والدويلة في بغداد إلى العلن، ولكنها تفجرت بعد اغتيال أمريكا للقيادي في الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني ومعه القيادي في الحشد الشعبي العراقي أبو مهدي المهندس، قرب مطار العاصمة في مطلع شهر يناير/كانون الثاني عام 2020.
ما فعله الحشد بعد اعتقال مصلح شكل من أشكال المواجهة المستمرة بين “دويلة إيران” في العراق والدولة العراقية، والحقيقة أن لـ”دويلة إيران” تيارات وأحزاباً سياسية تؤثر بشكل كبير في البرلمان، وتتحصن بأجنحة عسكرية تفوق قدرتها قوة الدولة في أحيان كثيرة. وما يزيد الطين بلة، أن هذه التيارات نسجت كثيراً من المصالح مع القوى السياسية الأخرى في البلاد حتى تحمي نفسها وتمرر أجندتها.
حتى الكتل والأحزاب والمليشيات الشيعية غير المنتمية لـ”دويلة إيران” في العراق لا تفضل الصدام معها. أو بتعبير أدق، هي غارقة في المصالح المباشرة وغير المباشرة معها، إلى حد كبير جداً. ولا يبقى إلا هؤلاء الذين لا ينتمون إلى أي فريق، وهم يحتجون ويعترضون على كل أشكال الفساد والولاءات الخارجية وغياب القانون، فإما أن يلاحقوا وإما أن يعتقلوا وإما أن يقتلوا برصاص لا تفلح السلطات بكشف مطلقه.
وطالما أن خلاف الدولة هو مع مايبدو فريقا أو أكثر داخل طائفة معينة، تجد القوى السياسية من المكونات الطائفية والعرقية الأخرى تمارس أقصى درجات الحياد، وكأنها تعيش في دولة ثانية. بعضها يخشى نقمة “دويلة إيران” في العراق، وبعضها الآخر يخشى أن تمس مصالحه، وفريق ثالث يريد أن يبتز الدولة العراقية كلما احتاجت إلى الوحدة الوطنية في مواجهة تحدٍّ داخلي، أو انتهاكات لسيادتها من الخارج.
ولأن الحال على هذا النحو، والكاظمي لم يأتِ إلى رئاسة الحكومة مستنداً إلى تكتل كبير في البرلمان، تواجه الحكومة كثيراً من الاعتراض ومحاولات التعطيل للقرارات التي تهدف إلى تغيير الواقع السياسي والأمني والاقتصادي الراهن، خاصة عندما تمس هذه القرارات، من قريب أو بعيد، مصالح “الدويلة الإيرانية” في العراق. وهو ما جعل رئيس الوزراء يتراجع أو يعيد النظر في قراراته بحالات كثيرة.
وفي ظل تعقيدات الداخل السياسية والديموغرافية والجغرافية والدينية، يبحث الكاظمي عن دعم خارجي في محاولات إصلاح أزمات الدولة، يطرق رئيس الوزراء أبواب الحلفاء والأصدقاء في العالم والمنطقة لعله يجد بينهم المعين. الولايات المتحدة الأمريكية، “خصم” إيران اللدود، تأتي في المقدمة طبعاً، ومن ثم الأوروبيون، ثم يأتي الأشقاء العرب الذين فتح بعضهم أبوابه أمام العراق مؤخراً.
يتكئ رئيس الوزراء أحيانا على الحضور الأمريكي في العراق، ولكن المشكلة أن إدارة الرئيس جو بايدن لا تبدو مهتمة بالمواجهة مع طهران في خضم المفاوضات التي تجري في فيينا حول البرنامج النووي الإيراني. يفضل بايدن تسوية هذا الملف تحديدا، قبل الخوض بكل الملفات المرتبطة به، التي تتمحور حول الاعتداء الإيراني على دول الشرق الأوسط، والبرنامج الصاروخي لنظام خامنئي.
يهتم الرئيس جو بايدن طبعا بمحاسبة أولئك الذين يستهدفون القوات الأمريكية في العراق، وهي إحدى التهم الموجهة للقيادي الحشدي قاسم مصلح، وفق مصادر مختلفة، ولكن هل الدعم الأمريكي لحكومة الكاظمي يكفيها لمواجهة نفوذ إيران في البلاد؟ وقبل هذا، هل تريد إدارة البيت الأبيض فعلا التخلص من نفوذ طهران الذي كان وما زال، أعز حلفاء الولايات المتحدة في العراق منذ غزوه عام 2003.
في القارة العجوز لن تجد مَن يقف ضد إيران لصالح أي دولة عربية، ومَن عارض لعامين قرار ترامب في الانسحاب من الاتفاق النووي مع طهران، لن يضحي الآن بفرصة إعادة أمريكا لهذا الاتفاق، سواء من أجل تلبية مطالب المحتجين أو الكشف عن قتلة النشطاء في مدن العراق. هذا بالإضافة إلى أن الأوروبيين لا يملكون من النفوذ والقوة في المنطقة ما يعين الكاظمي على استعادة سيادة الدولة.
عربياً، بدأت عدة دول منذ نحو عامين بمحاولة مساعدة العراق في حل مشكلاته الداخلية والخارجية. ولكن جهود هذه الدول تصطدم أولا بغياب التوافق العراقي حول سبل حلحلة هذه المشكلات، وثانيا بتجاذبات دولية وإقليمية كثيرة تهيمن على منطقة الشرق الأوسط، وتفرض على دوله ترتيب أولوياتها وفقاً لما يستجد من أحداث وتطورات. ناهيك عن وجود توجهات عربية متباينة إلى حد التناقض أحيانا في التعامل مع إيران.
في المحصلة، لن يكون اعتقال مصلح آخر فصول المواجهة بين الحكومة و”دويلة إيران” في العراق، وإذا كان الكاظمي يمارس هذه المواجهة على سبيل الدعاية السياسية كما يرى البعض، فلن يطول بلح الشام ولا عنب اليمن، كما يقال. أما إن كان جاداً وعازماً على استعادة هيبة الدولة حقاً، فليس أمامه إلا الرهان على الشارع الذي ثار على كل مظاهر الفساد والتبعية للخارج، ويدفع كل يوم دماً من أجل تحرر البلاد منها.