جدل واسع يثار في ملف دمشق بين مقتضيات الصحافة وحقوق المعتقلين
تفاجأ ذوي المعتقلين المفقودين في سجون نظام الرئيس السابق بشار الأسد، بإعلان مجموعة من المنصات الإعلامية المحلية والدولية عن نشر “ملف دمشق” الذي يضم معلومات وصورا لأكثر من عشرة آلاف معتقل توفوا تحت التعذيب، في حين أن الأهالي لا يعلمون عنها شيء رغم الجهود المضنية التي بذلوها للكشف عن مصير أبنائهم والوصول إلى أي معلومة منذ سقوط النظام دون نتيجة.
وذكرت مواقع إخبارية أن 25 منصّة إعلامية دولية وشريكة في 20 دولة، ستنشر سلسلة من التحقيقات والتقارير الاستقصائية، ضمن مشروع التحقيقات الدولي “ملفات دمشق”.
وبحسب وسائل الإعلام المشاركة في التحقيق الاستقصائي، وثق أرشيف ضخم أكثر من 70 ألف صورة التقطها مصوّرو الشرطة العسكرية السورية لتوثيق الوفيات في السجون، معظمها بين عامي 2015 وحتى سقوط نظام الأسد في ديسمبر/كانون الثاني 2024.
وأثارت ردود فعل عائلات الضحايا قضية إعلامية أخلاقية تتعلق باحترام المعلومات الشخصية لهؤلاء المعتقلين وصورهم المسربة لوسائل الإعلام وانتهاك خصوصياتهم قبل أن يطلع عليها أصحاب القضية أنفسهم الذين عانوا لسنوات طويلة لمعرفة مصير أبنائهم، ومعاناة أكبر بالبحث عن أي دليل يوصلهم الى الحقيقة بعد سقوط النظام وضياع ملفات المعتقلين أو تلفها أو سرقتها إثر الفوضى التي حدثت بعد فتح السجون، في حين أن المناشدات المستمرة للحكومة السورية والتحقيقات التي أجرتها الهيئة الوطنية للمفقودين منذ أشهر لم تسفر عن نتيجة.
وعكست المنشورات على مواقع التواصل الاجتماعي (المنفذ الوحيد للأهالي لإيصال أصواتهم) حالة الغضب من الإعلان عن نشر التحقيق والتعامل معه بمنطق الإثارة والسبق الصحفي مع تجاهل لمشاعر ذوي المعتقلين الذين دخلوا في سباق مع الوقت لقراءة ما بين السطور وتساؤلات هل سيتضمن الملف معلومات شخصية أو شهادات وفاة وهل سيجدون أبنائهم بين الصور القاسية والمؤلمة، والسؤال الأبرز “هل يحق لوسائل الإعلام أيا كانت الوصول على معلومات ومعرفة مصير أبنائنا قبلنا، وماهي مسؤولية الدولة السورية في هذه التسريبات التي تمت دون معرفة أهالي المعتقلين وتجاهل حقوقهم في الاطلاع على المعلومات عبر الهيئة الوطنية المكلفة رسميا بهذا الملف”.
وأكدت الناشطة السورية وفاء مصطفى وهي ابنة أحد المغيبين في السجون، أنهم عاشوا أقسى لحظات انهيار الأمل بعدم تمكنهم من الوصول إلى معلومات.
وأشارت الناشطة في مقطع فيديو مؤثر على حسابها في فيسبوك أن المعلومات المتعلقة بقضية المعتقلين تخص العائلات فقط، ولا يجب أن تكون مادة للتداول في مواقع التواصل الاجتماعي أو وسائل الإعلام، نظرا لحساسية هذه المعلومات فهناك طرق وأخلاقيات للتعامل مع هذا الملف، فهناك هيئات وطنية يجب أن تكون مسؤولة عن هذا الموضوع لا أن تمنح منصات أو منظمات إعلامية لنفسها الحق في إعطاء العائلات المعلومات المتعلقة بأبنائهم.
وأضافت أن هذه المعلومات ليست مشاعا بل هي حق للأهالي.
والمفارقة أن المؤسسات المعنية بملف المعتقلين كانت آخر من يعلم بتفاصيل هذا الملف، فقد نشرت المؤسسة المستقلة المعنية بالمفقودين في سوريا بيانا على حساباتها الاجتماعية أعلنت فيه أنها تتابع عن كثب ردود فعل العائلات على التقارير الأخيرة المتعلقة بمصير آلاف الأشخاص ممّن كانوا محتجزين لدى النظام السوري السابق.
وتجمع ردود فعل العائلات على الحساسية الشديدة للملف وتجاهل منصات الإعلام لهذه الحساسية بالطريقة التي تم الإعلان بها عن الملفات:
وبحسب المؤسسة بدا واضحا أن العائلات لم تستطع التوصل الى تفاصيل كافية حول أبنائهم من قبل وسائل الإعلام والمنصات التي قامت بإنتاج التقرير، فقد جاء في البيان “تواصلت معنا العديد من العائلات التي كانت تبحث عن أخبار أحبائها لسنوات بشأن هذا الموضوع. نحن ندرك الأثر العاطفي العميق لمثل هذه التقارير، والمخاوف التي عبّر عنها الكثيرون من احتمال اكتشافهم لمصير أقاربهم عبر الإنترنت بطريقة تفتقر إلى الاحترام الكافي لكرامتهم وحقهم في اتخاذ القرار”.
وتابعت “يتم التحقق من جميع المعلومات التي تتلقاها المؤسسة المستقلة وتحليلها بدقة، وغالبًا ما تتطلب هذه العملية عناصر إضافية لتقديم نتائج دقيقة وموثوقة وقابلة للتنفيذ. وبمجرد توفر وضوح كافٍ بشأن النتائج، فإن إبلاغ العائلات المعنية بالشخص المفقود حصرًا وبشكل مباشر يُعد أولوية قصوى، والعائلات هم أصحاب المصلحة المعنيين بهذا الملف”.
وكما كل حدث على الساحة السورية، تختلط الحقيقة بالشائعات والأخبار المضللة على مواقع التواصل الاجتماعي، بغياب الشفافية وتأخر المؤسسات الرسمية في اطلاع الرأي العام على المعلومات، إذ تداول بعض الناشطين أنباء أن هذا الملف وصل الى السلطات السورية قبل المنصات المشاركة بالتحقيق، وهو ما زاد الغضب الشعبي مع شكوى العديد من العائلات من عدم إيلاء الحكومة ملف المعتقلين الاهتمام الكافي. لتنشأ معركة جديدة بين الناشطين حول الحقيقة.
وبحسب ما ذكر الاتحاد الدولي للصحفيين الاستقصائيين في تقرير على موقعه الإلكتروني، فإن ملف دمشق (وهو تحقيقٌ يستند إلى أكثر من 134 ألف سجلٍّ أمنيٍّ واستخباراتيٍّ سوريٍّ حصلت عليه إذاعة “ان.دي.آر” الألمانية، وشاركته مع الاتحاد الدولي للصحفيين الاستقصائيين و24 شريكًا إعلاميًا) يُقدم لمحةً غير مسبوقة عن آلة القتل التي استخدمها نظام الأسد. من خلال أكثر من 10 آلاف حالة موثقة في الملفات، التي تتضمن صورًا للضحايا وشهادات وفاة.
وأضاف الاتحاد، أن التحقيق يكشف عن الأدلة المروعة على حملة القمع التي شنها النظام: عشرات الآلاف من الصور التي التقطها مصورون عسكريون تُظهر معتقلين ماتوا في الحجز. ولفهم الحقائق الملتقطة في هذه الصور بشكل أفضل، أجرى فريق من مراسلي الاتحاد الدولي للصحفيين الاستقصائيين، وإذاعة “ان.دي.آر”، وصحيفة زود دويتشه تسايتونغ الألمانية تحليلاً لعينة عشوائية من 540 صورة، ووجدوا أن ثلاثة من كل أربعة من الضحايا كانت تحمل علامات الجوع، وأن ما يقرب من ثلثيهم ظهرت عليهم علامات إيذاء جسدي. وكان ما يقرب من نصف الجثث عارية، ومكشوفة على الأرض أو على سطح معدني.
وأشار الاتحاد أنه أجرى مع “ان.دي.آر” مقابلات مع سبع عائلات وردت أسماء أقاربها في السجلات. في بعض الحالات، كما في حالة النجار، كانت هذه السجلات أول دليل تلقته العائلات على وفاة أقاربها. وشاركت شبكة “ان.دي.آر” أسماء الضحايا الواردة في ملف دمشق مع أربع منظمات غير حكومية ومنظمات حكومية دولية، على أمل أن تساعد عائلات أخرى على معرفة مصير أحبائها، وفق الموقع.
