جندي بريطاني يتحدى الموت.. رحلة أدريان كارتون دي ويرت الملهمة
في سِجِلِّ الحروب، حيث يكتب الأبطال أسماءهم بدمائهم، يندر أن يظهر مقاتلٌ يتحدى الموت نفسه بتلك الجسارة التي أبداها اللفتنانت جنرال السير البريطاني، أدريان كارتون دي ويرت.. الرجل الذي فقد عينه، وبُترت يده، وتشوهت أذنه، وتكسر جسده في معارك لا تُعد.
لم يكن دي ويرت مجرد جندي، بل كان أسطورةً عبر نصف قرن من القتال بدأت من الصومال حيث فقد عينه الأولى، ومرت بخنادق السوم حيث تكسر جسده وتحطمت عظامه، بحسب صحيفة “ديلي ميل” البريطانية.
وحتى عندما وقع أسيراً، ظل يناور الموت ويحفر الأنفاق ويخطط للهروب، وكأن القدر نفسه يعجز عن احتجازه.
تحول دي ويرت إلى أيقونة للشجاعة المتحدية، حتى إن رئيس الوزراء البريطاني الراحل ونستون تشرشل وصفه بـ”الرجل الذي لا يُقهَر”، فقد كانت حياته سلسلة من المعجزات المستحيلة: يهرب من معسكر الأسر، ينجو من تحطم طائرة، يقود الهجمات ويخوض المعارك بعين واحدة ويد مبتورة.

وُلد كارتون دي ويرت عام 1880 في عائلة أرستقراطية ببروكسل، وانقطع عن دراسة القانون في جامعة أكسفورد عام 1899 لينضم إلى الحرب في جنوب أفريقيا خلال حرب البوير، حيث أصيب برصاصتين في البطن والفخذ.
وعاد إلى الخدمة ضابطًا في فرقة الفرسان الرابعة، وخدم لاحقًا في الهند، وتجنّس بالجنسية البريطانية، وتزوّج من كونتيسة نمساوية، قبل أن يُرقّى إلى رتبة نقيب، لكن القدر كان يُعدّ له طريقًا مختلفًا في ميادين أكثر دموية.
ومع اندلاع الحرب العالمية الأولى، أُرسل إلى الصومال ليشارك في معركة أصيب خلالها برصاصة أفقدته عينه اليسرى وقسمًا من أذنه.

وبعد تعافيه، عاد إلى القتال مقدّمًا أداءً أسطوريًا جعله يحصل على وسام الخدمة المتميزة، حيث كان معروفًا بارتدائه عصابة سوداء على عينه، بعد أن رفض وضع العين الزجاجية التي قدمت له.
في فبراير/شباط 1915، انتقل إلى الجبهة الغربية في أوروبا، حيث أصيب 7 مرات، منها جروح مروعة في يده اليسرى التي بُترت لاحقًا بعدما قطع بنفسه اثنين من أصابعه المصابة.
وخلال معركة السوم، تعرض لإصابات بالغة في الجمجمة والكاحل بينما قاد الجنود تحت نيران كثيفة، مما منحه وسام فيكتوريا كروس، أرفع وسام للشجاعة في المملكة المتحدة.
واستمرت إصاباته في معارك مختلفة حتى كادت ساقه أن تُبتر.
وعرف كارتون دي ويرت بقيادته من المقدمة وشجاعته التي ألهمت جنوده، معتبرًا الحرب تجربة استمتع بها رغم بشاعتها.
بعد الحرب، حصل على وسام قائد الإمبراطورية البريطانية، وخدم كمساعد للملك جورج الخامس، وقاد بعثة بريطانية في بولندا أثناء صراعها مع الجيش الأحمر السوفياتي. ثم تقاعد مؤقتًا في 1923 لكنه كان دائمًا جاهزًا للعودة للقتال.
مع اندلاع الحرب العالمية الثانية، كان كارتون دي ويرت قد تجاوز الستين، أي ضعف عمر معظم الجنود، ومع ذلك قاد حملةً في النرويج عام 1940، ثم أُرسل إلى يوغوسلافيا في العام التالي.
لكن القدر اختبره مجددًا حين تحطّمت طائرته “ويلنغتون” فوق البحر المتوسط بعد تعطل محركاتها قرب السواحل الليبية الخاضعة وقتها للسيطرة الإيطالية. تشبّث بجناح الطائرة الطافي حتى انكسر، فاضطر إلى السباحة نحو الشاطئ، بينما كان يساعد زميلًا كُسرت ساقه. غير أن الشاطئ الذي وصلاه كان أرضًا معادية، فوقعا في الأسر.
ورغم إعاقاته، حاول الهروب 5 مرات، وفي إحدى المرات قضى 7 أشهر في حفر نفق، ونجح في الإفلات لثمانية أيام متخفيًا في هيئة فلاحٍ إيطالي.
وبعد عامين، أُطلق سراحه بوساطة من تشرشل، الذي وصفه بأنه “نموذجٌ للفروسية والشرف”، وعيّنه ممثلاً شخصيًا له لدى الزعيم الصيني تشانغ كاي شيك.
ثم تقاعد نهائيًا عام 1947 واستقر في أيرلندا حيث عاش حياة هادئة حتى وفاته عام 1963 عن عمر يناهز 83 عامًا.
