حلم مواطن لبناني
لم يعد المواطن اللبناني يملك سوى رفاهيةِ الحلم مع بدء عام جديد. لا شيء على أرض الواقع يسمح للبناني أن ينتظرَ مستقبلاً أقلَ بؤساً ممَّا هو فيه. المتاح الوحيد هو الحلم. الحلم باستعادة جنى العمر الذي أودعه في المصارف. الحلم بنور في عتمة الأمسيات لا يحرمه منه الانقطاع الدائم للكهرباء. الحلم بفرصة عمل لأولاده لا تجبرهم على الالتحاق بمواكب المهاجرين الساعين وراء رزقهم حيث توفّر في أقاصي الأرض. الحلم بظهور نتائج تحقيق عادل في جريمة انفجار مرفأ بيروت يعيد الأمل لأهالي الضحايا بأنَّ ذويهم لم يقتلوا مرتين؛ مرة بسبب التواطؤ والإهمال المتعمد، ومرة ثانية بسبب تآمر المتهمين والمجرمين لحجب الحقيقة ومنع الملاحقة والمحاسبة. الحلم بمسؤولين لا يتقاسمون ما بقي من جثة الوطن، فيما مواطنوهم يسعون في الطوابير وراء الخبز والبنزين، ويتسابقون مع سعر الدولار لتوفير ما يتيسَّر لهم من مؤونة النهار.
المواطن اللبناني يحلم بوطن مثل سائر أوطان الأرض. وطن لا يكون ساحة لتنازع الطوائف على الحصص، بل ساحة لتنازع السياسيين على من يوفر فرص المستقبل الأفضل لبلده.
لن تكون السنة المقبلة سنة عادية بالنسبة إلى المواطن اللبناني. يمكن القول إنّها ستكون سنة الحساب. وأتمنى أن تكونَ سنة محاسبة نفسه أولاً على خياراته الخاطئة، التي أوصلت من يشكو منهم اليوم إلى المواقع التي سمحت لهم بارتكاب كل أنواع الإذلال بحقه وبحق أولاده. من عادة اللبناني أن يشكوَ من سوء الأحوال التي وصل إليها بلده، متهماً الجميع بالمسؤولية، ومتجاهلاً أنه هو الذي تقع عليه المسؤولية الأولى.
ويفترض أن تكون السنة المقبلة سنة محاسبة المسؤولين اللبنانيين على ما ارتكبوه. وهذا الحساب يقتضي تخلّي المواطن اللبناني عن ثقافة القطيع، التي تقوده خلف الزعيم الذي يتفق مع أهوائه الطائفية ويؤمّن مصالحه الصغيرة على حساب المصلحة الوطنية. ويقتضي بالتالي حسن الاختيار.
وعندما أقول إنَّ المتاح الوحيد أمام المواطن اللبناني هو الحلم فأنا لا أبالغ. إذ كيف ستتحسن أحوال اللبناني، فيما هو على ما هو عليه، وقادته على ما هم عليه من استخفاف بمصالحه ووقاحة لا ينقصها التعالي عمَّا يعانيه. من أين ستأتي بهذا المواطن القادر على التخلي عن ميوله الحزبية والطائفية الضيقة بما يتيح له التبصر وحسن الاختيار؟ ومن أين ستأتي بهذا السياسي الشجاع الذي يرمي خلف ظهره الحسابات المصلحية ويرتقي إلى مستوى الشجاعة الوطنية، فيجاهر بالحقيقة التي تصف أسباب الحال التي وصل إليها لبنان، ولا يتردد في إعلان مسؤوليته عن الوصول إلى هذه الحال.
في كلمة بمناسبة نهاية السنة، قرَّر الرئيس ميشال عون فتحَ دفاتر العهد وكشف الحساب مصارحاً مواطنيه؟ فماذا وجد؟ في معرض حديثه عن مقاطعة «الثنائي الشيعي» للحكومة بسبب الاحتجاج على التحقيق في جريمة انفجار مرفأ بيروت، اكتشف رئيس الجمهورية، بعد 5 سنوات على ولايته، أنَّ التعطيل المتعمد والممنهج وغير المبرر هو الذي يؤدي إلى تفكيك المؤسسات وانحلال الدولة!
ومن هو صاحب هذا الاكتشاف؟ هو الرئيس الذي سمح بتعطيل مؤسسات الدولة سنتين ونصف السنة، بالتحالف والتواطؤ مع «حزب الله»، ليرغم مجلس النواب على انتخابه رئيساً للجمهورية. وهو الذي لم يجد حرجاً في إسقاط حكومة الرئيس سعد الحريري، بقرار تم إعلانه من منزله في منطقة الرابية، لمنع قيام المحكمة الدولية من التحقيق في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري.
لم يغفل رئيس الجمهورية مسألة سلاح «حزب الله» ولو عن طريق المواربة. أشار إلى «الثلاثية» التي فرضها «حزب الله» على الدولة وعلى بيانات عمل الحكومات (الجيش والشعب والمقاومة). لكنه قال إنه رغم هذه «الثلاثية» التي تلحظ دور «المقاومة»، فإن الدولة وحدها هي التي يجب أن تكون مسؤولة عن السهر على تنفيذ «الاستراتيجية الدفاعية» وعن سبل حماية لبنان. لكن عون كان هو الرئيس القادر، لو أراد، على فرض الموقف الوطني الصحيح على «حزب الله»، بإرغامه على وضع سلاحه في خدمة المؤسسة العسكرية الوطنية. غير أنَّ ما حصل أنَّ عون أخذ من «حزب الله» الغطاء الذي يحتاجه للوصول إلى قصر بعبدا، في مقابل تجاهل، بل توفير الغطاء، لكل التجاوزات التي أقدم عليها الحزب بهيمنته على القرارات السياسية والقضائية في الداخل، وبإساءته إلى علاقات لبنان العربية.
هناك تجاهل مصلحي من قبل معظم الأحزاب في لبنان للدور الذي يلعبه «حزب الله» في تعزيز ثقافة الولاء المذهبي على حساب الولاء الوطني. صحيح أنها ثقافة تشمل كل المذاهب والطوائف، لكن فرضها بقوة السلاح على الطائفة الشيعية، التي تمَّ حصر تمثيلها في الحكومات وفي مجلس النواب، بـ«الثنائي الشيعي»، صار العائق الأكبر الذي يمنع قيام ثقافة وطنية عابرة للطوائف. يضاف إلى ذلك ولاء «حزب الله» لمرجعيته الإيرانية، ما يتناقض مع مزاعم كونه حزباً لبنانياً، كما شاء الرئيس نجيب ميقاتي أن يدافع عنه في مداخلته الأخيرة، معتبراً أنه «حزب سياسي موجود على الساحة اللبنانية كباقي الأحزاب». وذلك رغم أن ميقاتي يدرك حقيقة الخطر الذي باتت تشكله سياسات «حزب الله»، ليس فقط على عمل المؤسسات السياسية والقضائية في لبنان، بل على هوية البلد ذاته.
مواقف تحتاج إلى قدر عالٍ من الشجاعة للإفصاح عنها. إلا أنَّ واقع الحال أنَّه بسياسات كهذه وتحت رحمة سياسيين كهؤلاء لا يبقى أمام اللبناني سوى التمتع بنعمة الحلم، ولا شيء غير الحلم، بمستقبل آخر، أو نعمة العيش في بلد آخر.