اخترنا لكم

روسيا.. “الخصم والذريعة”


الحرب الروسية-الأوكرانية أحدثت انقساما داخل حلف الناتو وآخر في الاتحاد الأوروبي.

الأمر ليس بهذا السوء الآن، ولكن لا ضمانات بأن تبقى الظروف تحت السيطرة طويلا.

روسيا “الخصم” هي السبب في الانقسامين، والتعريف الأفضل للاثنين هو محاولة أطراف في التكتلين فرض مواقف ضد موسكو على أعضاء آخرين، فيكون رد المعارضين بالرفض أو “بيع” المواقف المطلوبة مقابل تفاهمات سياسية أو اقتصادية.

وفي العلاقات بين الدول لا يوجد ما يعيب استغلال ظروف خارجية لمصالح وطنية آنية أو استراتيجية.

التخلي عن الطاقة الروسية هو ما تنقسم حوله دول الاتحاد الأوروبي. النفط والفحم اليوم وغدا الغاز، واتخاذ القرارات إزاء هذه السلع الاستراتيجية ليس سهلا كما يعتقد البعض.

دول عدة تعتمد على موارد الطاقة في رسم خططها التنموية، وأخرى تحسب كلفتها على صناعاتها وسكانها وخدماتها، قبل أي شيء آخر في خططها الاقتصادية. 

أن تتخلى عن مصادر طاقة رخيصة ووفيرة وقريبة مقابل موقف سياسي، ليس قرارا يؤخذ بجرة قلم أو دون تفكير مطول في التداعيات والبدائل. التردد والتفاوض في هذا الشأن ليس جُبناً أو تخاذلا، وإنما تعقلا وحكمة.. خاصة في الدول التي تخضع فيها الحكومات لمساءلة شعوبها عند اتخاذها لقرارات مصيرية تؤثر على مجالات الحياة كافة.

ولأن الأمر يستحق، قرر الاتحاد الأوروبي حشد استثمارات بقيمة 300 مليار يورو لإنهاء اعتماد دوله على النفط والغاز الروسيين بحلول 2030.

أما أصحاب الإسهامات الكبرى في هذا المبلغ فسيكونون أولئك الذين يحرضون على القطيعة مع روسيا، وفي ذات الوقت يخشون أن تؤدي الخصومة معها إلى تفكك الاتحاد كتكتل اقتصادي.

ذات المشكلة تواجه حلف شمال الأطلسي، الذي يريد التوسع شرق أوروبا.. هناك من يشجع ويدعم انضمام دول مثل أوكرانيا وفنلندا والسويد إلى الحلف، ولا يريد من أي عضو فيه أن يعترض على ذلك.

يدعي المشجعون أن الغاية من توسع الناتو “عظيمة”، ولا ترتقي لها كل أسباب الرفض أو التحفظ على تنفيذها، وبأقصى سرعة ممكنة.

دولة مثل تركيا تجد نفسها أمام خيار قبول انضمام “خصوم” لها إلى الناتو، أو إثارة غضب أمريكا والاتحاد الأوروبي.

قد تختلف أو تتفق مع أسباب أنقرة رفض عضوية ستوكهولم أو هيلنسكي في الحلف، ولكنك لا تملك أن تصادر حقها في التفاوض وإبرام الصفقات مقابل تلبية رغبة العاصمتين بالحصول على عضوية “شمال الأطلسي”.

الفائدة “العظيمة” من توسع الناتو شرق القارة العجوز قد لا تشعر تركيا بها.. على العكس، قد يُلحق ضررا بسياساتها الخارجية أو استراتيجياتها لحماية أمنها القومي.

هكذا يقول رئيس الدولة رجب طيب أردوغان، ويضيف أن لبلاده تجربة سيئة في قبول عضوية اليونان في الحلف، وقد تحولت بعدها إلى “خصم” لمصالحها في “شرق المتوسط”.

لا تخلو العلاقات بين الدول من الانتهازية يوماً.. وليس واقعيا الادعاء والترويج لانضمام السويد وفنلندا إلى الناتو كقضية أخلاقية لا تحتمل المساومة والمقايضة، خاصة أن روسيا لم تهدد الدولتين أصلاً، ولم تلمح إلى مهاجمتهما رغم دعمهما العسكري لأوكرانيا.

ربما تحتاج الدولتان إلى عضوية الناتو “على سبيل الاحتياط والاستعداد لأي اعتداء روسي محتمل بعد سنوات”.. ولكن يبدو أن هذه الحاجة ليست كافية لإقناع “أردوغان” بتجاوز دعمهما لمنظمات “إرهابية” وفق التصنيف التركي، كـ”حزب العمال الكردستاني” وجماعة “فتح الله جولن”.. وهو يراها فرصة لإبرام تفاهمات واضحة مع الدولتين في هذا الشأن.

ربما تطمح تركيا إلى تعزيز حوارها مع الولايات المتحدة مقابل القبول بانضمام الدولتين الاسكندنافيتين إلى حلف الناتو.. فالعلاقة بين أنقرة وواشنطن ليست مثالية، و”أردوغان” لن يضيع فرصة لفتح الأبواب المغلقة مع إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن.. خاصة وهو يقف على أعتاب انتخابات عامة يبني عليها أحلاما كبيرا السنة القادمة. 

وسواء لتركيا أو غيرها من دول الناتو أو الاتحاد الأوروبي، فإن روسيا باتت اليوم “الخصم والذريعة” في آنٍ. فالجميع يريد أن يقلّم أظافرها، وفي الوقت نفسه يستغل حربها على أوكرانيا كي يحقق مكاسب في علاقاته الخارجية.. خاصة أن العالم من شرقه إلى غربه يعيش حالة اصطفاف كبيرة وفجة بين خصوم أمريكا وحلفائها.

ولا نبالغ بالقول إن أمريكا وبريطانيا كانتا سبّاقتين إلى تبني معادلة “الخصم والذريعة” في الأزمة الأوكرانية.. أولا في دفع روسيا إلى شن عملية عسكرية على أراضي جارتها، ثم في دفع العالم نحو المفاضلة والاختيار بين التحالف مع روسيا والصين، وبين الانضمام إلى المعسكر الغربي الذي تحميه الولايات المتحدة وحلف الناتو.

هي ليست المرة الأولى التي تلجأ واشنطن إلى هذه المعادلة.. فمطلع الألفية الجديدة، وبعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وجد العالم نفسه أمام خيارين، “الحرب على الإرهاب” أو الخصومة مع أمريكا.. فقررت غالبية الدول تأييد غزو العراق وأفغانستان، ولا يزال الجميع يعيش تداعيات ما جرى في البلدين وجوارهما منذ ذلك الحين.

يعيش العالم اليوم تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية منذ أشهر، وكل المؤشرات تقول إنها ستمتد لسنوات.. ربما لا يملك أحد رفاهية الحياد إزاء هذه الحرب، ولكن يمكن للدول أن تتجنب التسرع في حسم خياراتها تجاه روسيا كخصم أو ذريعة.. وكما يقول نابليون بونابرت: “تمهل عند اختيار الصديق! وتمهل أكثر عند تغييره!”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى