المغرب العربي

صراع الكبار فوق الرمال الليبية.. موسكو والغرب في مواجهة غير معلنة


صعّدت روسيا لهجتها داخل مجلس الأمن الدولي مُحمّلة حلف شمال الأطلسي (الناتو) والدول الأوروبية ومحكمة الجنايات الدولية مسؤولية الانحدار المتواصل للوضع في ليبيا، معتبرة أن جذور الأزمة الحالية، وفي مقدمتها ملف الهجرة، تعود إلى “السياسات الغربية الكارثية” والتدخل العسكري الذي قادته دول الحلف عام 2011. وجاء الموقف الروسي خلال الجلسة التي استعرضت فيها نزهت شميشم خان، نائبة المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، آخر مستجدات التحقيقات المتعلقة بليبيا.
وخلال كلمتها، اعتبرت ممثلة روسيا أن المحكمة الجنائية الدولية لا تُسهِم في استقرار ليبيا بل تعرقل المسار نحو تطبيع الأوضاع، مشيرة إلى أن المؤسسة القضائية الدولية “تتبنى نهجاً انتقائياً” في تناول ملفات الانتهاكات، خصوصاً تلك المتعلقة بالمهاجرين. وقالت الدبلوماسية الروسية إن المحكمة “تتوقف عند حوادث فردية بينما تمتنع عن الإشارة إلى دور الدول الأوروبية في السياسات التي أدت إلى معاملة لا إنسانية ومقتل الآلاف ممن حاولوا الوصول إلى برّ الأمان عبر المتوسط”.

المؤسسة القضائية الدولية تتبنى نهجاً انتقائياً

وشددت موسكو على أن جذور المأساة الإنسانية التي يعيشها المهاجرون اليوم لا يمكن فصلها عن التدخل العسكري الغربي في ليبيا، وهو التدخل الذي ترى روسيا أنه أدى إلى انهيار مؤسسات الدولة وتمزيق نسيجها الاجتماعي. وأضافت ممثلة روسيا أن “فظائع الحرب الأهلية التي شهدها الليبيون طوال السنوات الماضية هي نتيجة مباشرة لعدوان الناتو”، معتبرة أن انهيار الدولة الليبية فتح المجال أمام الجماعات المتطرفة والمنظمات الإجرامية التي حولت ليبيا إلى محور لعدم الاستقرار يمتد أثره إلى كامل القارة الإفريقية.
ولم تكتف موسكو بتوجيه النقد للمحكمة الجنائية، بل اتهمت الجهات الغربية بمحاولة تحميل الليبيين مسؤولية أزمة لم يصنعوها، بينما “تتنصل أوروبا من المسؤولية عن نتائج سياساتها الحدودية”، التي وصفتها بأنّها “عوامل أساسية في تفاقم الهجرة وموت الآلاف في البحر”. وأعادت روسيا التذكير بأن أربع دول انسحبت من نظام روما الأساسي بسبب ما اعتبرته ازدواجية معايير المحكمة وفقدان الثقة في حياديتها.
ويأتي هذا الهجوم الروسي في سياق أوسع من التنافس الدولي الحاد على النفوذ في ليبيا، حيث باتت الساحة الليبية مجالاً مفتوحاً لصراع متعدد المستويات بين موسكو والقوى الغربية. وفي الوقت الذي تعرب فيه عواصم أوروبية عن مخاوف متزايدة من اتساع النفوذ الروسي في شمال إفريقيا، تواصل موسكو تعزيز حضورها السياسي والعسكري والاقتصادي داخل البلاد.
ففي السنوات الأخيرة، تمكنت روسيا من تثبيت وجود عسكري مؤثر عبر قواعد جوية واستقدام معدات متطورة، إضافة إلى دعمها المتواصل للجيش الوطني الليبي بقيادة المشير خليفة حفتر، الذي يحتفظ بعلاقات وثيقة مع موسكو. وعلى الجانب الآخر، لم تُخفِ روسيا انتقاداتها الحادة لحكومة الوحدة الوطنية المنتهية ولايتها برئاسة عبدالحميد الدبيبة، متهمة إياها بالتنسيق مع كييف لتنفيذ عمليات عسكرية وأمنية داخل منطقة الساحل الإفريقي، وهو الاتهام الذي أثار جدلاً واسعاً حول طبيعة المواجهة غير المباشرة بين موسكو والغرب في المنطقة.
وفي موازاة البعد العسكري، كثفت روسيا حضورها الاقتصادي في ليبيا عبر سلسلة من الشراكات الاستراتيجية في مجالات الطاقة والبنى التحتية، في محاولة لتأمين مصالح طويلة الأمد تتناسب مع طموحاتها في البحر المتوسط وشمال إفريقيا. وترى موسكو أن بناء علاقات متوازنة مع مختلف الأطراف الليبية يسمح لها بالحفاظ على نفوذ مستقر مهما تغيرت موازين القوى المحلية.
ويشير مراقبون إلى أن هذا الاشتباك السياسي والقضائي بين روسيا من جهة، وأوروبا والمحكمة الجنائية الدولية من جهة أخرى، يكشف حجم التوتر العالمي المتصاعد حول ليبيا، الدولة التي شهدت منذ 2011 تعدد مراكز السلطة وتداخل الأجندات الخارجية. وفي ظل غياب تسوية سياسية شاملة، يبدو أن ليبيا ستبقى مسرحاً لصراع النفوذ بين موسكو والغرب، فيما يواصل ملف الهجرة – الأكثر حساسية بالنسبة لأوروبا – إشعال الخلافات الدبلوماسية.
وبينما يتمسك الجانب الروسي بأن الأولوية هي دعم المؤسسات الليبية من الداخل بعيداً عن الضغوط الخارجية، تتشبث العواصم الغربية بضرورة استمرار التحقيقات الدولية باعتبارها مساراً لتحقيق العدالة. وبين هذه الرؤى المتناقضة، يبقى الليبيون والمهاجرون على حد سواء الضحايا الأبرز لصراع دولي لم تتضح نهاياته بعد.

زر الذهاب إلى الأعلى