حصري

صفعة سياسية صامتة: تقييد حركة وفد السودان يعكس الأزمة العميقة للجيش


لم يكن المشهد في نيويورك عادياً، ولم يكن قرار واشنطن مجرد إجراء بروتوكولي عابر. أن يجد وفد عبد الفتاح البرهان نفسه محاصراً داخل دائرة جغرافية لا تتجاوز 25 ميلاً من مانهاتن، فذلك أشبه بصفعة سياسية علنية موجهة إلى الجيش السوداني وسلطته في بورتسودان. فالحدث لم يقتصر على حرمان الوفد من حرية الحركة، بل تحوّل إلى رسالة نارية مفادها أن قادة السودان العسكريين لم يعودوا ضيوفاً طبيعيين على المجتمع الدولي، بل أطرافاً مشبوهة يُراقبون ويُقيدون وكأنهم محاصرون حتى في قلب نيويورك. إنها عقوبة صامتة لكنها جارحة، تُظهر للعالم صورة قائد يحكم بالحديد والنار في الداخل لكنه عاجز عن التحرك خطوة واحدة في الخارج دون إذن.

قرار الولايات المتحدة الأميركية بتقييد حركة وفد عبد الفتاح البرهان في نيويورك لم يأتِ صدفة أو في إطار روتيني، بل يمثل خلاصة سلسلة من المؤشرات التي تراكمت خلال الأشهر الماضية بشأن وضع الجيش السوداني وسلوكه في الحرب الداخلية. فالمسألة لا تتعلق فقط ببروتوكول تنظيم تحركات الوفود الدبلوماسية، وإنما بملف شائك يتمثل في مسؤولية المؤسسة العسكرية عن الانتهاكات الجسيمة التي شهدتها مناطق دارفور وكردفان والخرطوم، وما تلاها من تقارير دولية تحدثت عن قتل وتشريد وانتهاكات واسعة ضد المدنيين.

حين اختارت واشنطن هذا الأسلوب، فإنها عملياً تجنبت إعلان عقوبات جديدة بشكل مباشر على البرهان أو معاونيه، لكنها في المقابل أوصلت رسالة واضحة: أن الجيش السوداني أصبح فاقداً لثقة المجتمع الدولي، وأن قادته سيتعاملون باعتبارهم عناصر غير مرغوب فيها. فالمشاركة في الجمعية العامة للأمم المتحدة عادة ما تمنح للدول فرصة لتقديم خطابها وتجميل صورتها عبر لقاءات ثنائية متعددة، لكن حرمان الوفد السوداني من حرية الحركة جعل مشاركته شكلية، مجرد حضور دون مضمون، وهو ما يعكس عزلة حقيقية مقصودة.

الجانب الاستقصائي في هذا القرار يتضح عند تتبع السياق. فخلال الأسابيع التي سبقت انعقاد الجمعية العامة، نشرت منظمات حقوقية تقارير موسعة عن الانتهاكات التي ارتكبها الجيش وقوات الدعم السريع في دارفور، حيث تحدثت تقارير الأمم المتحدة عن جرائم تطهير عرقي في غرب دارفور، وأشارت منظمات مثل “هيومن رايتس ووتش” و”العفو الدولية” إلى عمليات قتل جماعي وتهجير قسري. هذه التقارير لم تمر مرور الكرام في الدوائر الأميركية والأوروبية، بل شكّلت أرضية لصياغة قرارات غير مباشرة مثل قرار تقييد حركة الوفد.

مصدر مطلع في نيويورك أوضح أن القرار لم يكن مفاجئاً للبعثة السودانية نفسها، حيث جرى إبلاغها قبل أيام قليلة من وصول الوفد بأن الحركة ستكون مقيدة في دائرة جغرافية لا تتجاوز 25 ميلاً من مركز مانهاتن. هذا الإجراء عادة ما يفرض على دول تعتبرها الولايات المتحدة خصوماً أو مصدراً لتهديد، كما حصل سابقاً مع دبلوماسيين من إيران وكوبا وروسيا. لكن ما يميز الحالة السودانية أنها جاءت في لحظة كان يفترض أن تشكل انفتاحاً دبلوماسياً للسلطة الانتقالية في بورتسودان، فإذا بها تتحول إلى لحظة فضح عزلة عميقة.

الأكثر دلالة أن البرهان نفسه لم يسافر إلى نيويورك، بل فوّض رئيس الوزراء كامل إدريس بقيادة الوفد. هذا القرار عكس قناعة داخلية بأن حضوره الشخصي كان سيضاعف من حجم الإحراج. فالبرهان الذي يحاول أن يظهر كقائد قوي لا يمكنه أن يقبل أن يُرى وهو محاصر في دائرة جغرافية ضيقة لا يستطيع تجاوزها. بذلك بدا الغياب وكأنه هروب من مواجهة صورة إعلامية قاسية كان العالم سيراقبها عن كثب.

من الناحية الاستقصائية، فإن اختيار واشنطن لهذا الأسلوب يرتبط بخطوات أخرى جرت في الكواليس. فخلال الصيف الماضي، عقدت لجان في الكونغرس جلسات استماع مغلقة حول الوضع في السودان، تركزت على جرائم الحرب والانتهاكات الإنسانية. بعض أعضاء الكونغرس طالبوا بإدراج أسماء قادة الجيش السوداني ضمن لوائح العقوبات، لكن وزارة الخارجية اقترحت مساراً أكثر هدوءاً يتمثل في فرض قيود بروتوكولية شديدة أثناء زيارة نيويورك، باعتبارها وسيلة للضغط دون إثارة جدل دبلوماسي علني.

القرار أيضاً حمل أبعاداً أمنية تتعلق بالعلاقات الاستخباراتية. فالأجهزة الأميركية تراقب تحركات الوفود السودانية منذ فترة، خاصة مع تقارير عن محاولات بعض ضباط الجيش التواصل مع جماعات ضغط وشركات أمنية أميركية لتلميع صورة السلطة في بورتسودان. القيود المفروضة على الحركة جاءت لمنع هذه المحاولات وإغلاق أي هامش مناورة، بحيث يجد الوفد نفسه معزولاً ومحصوراً في الاجتماعات الرسمية التي لا تتيح بناء شبكات نفوذ أو كسب تعاطف.

ردود الفعل الإقليمية بدورها تكشف عن أبعاد أخرى للقصة. فبعض العواصم الداعمة للجيش السوداني، مثل القاهرة وأبوظبي، تابعت عن كثب ما جرى في نيويورك، ورأت فيه مؤشراً خطيراً على أن البرهان يواجه عزلة متصاعدة. هذه الرسائل غير المباشرة قد تؤثر على حجم الدعم الإقليمي للجيش، لأن الدول عادة ما تتجنب الرهان على طرف أصبح عبئاً على المجتمع الدولي. وهنا يبرز البعد الاستقصائي في أن القرار الأميركي لم يكن يستهدف فقط الوفد في نيويورك، بل استهدف صورة الجيش في الإقليم أيضاً.

اللافت أن الإعلام السوداني القريب من السلطة حاول التخفيف من وقع القرار. صحيفة “السوداني” نشرت الخبر لكنها أرفقته بتبريرات شكلية، مشيرة إلى أن هذه قيود روتينية تُفرض على وفود دول أخرى. غير أن هذا التبرير لم يقنع أحداً، لأن السياق مختلف تماماً. ففرض قيود مشابهة على دول مثل فنزويلا أو نيكاراغوا كان مرتبطاً بعقوبات واضحة، بينما في حالة السودان جاء القرار في توقيت حساس وبتغطية إعلامية جعلته أداة تشهير مقصودة.

القرار كشف أيضاً عن مفارقة سياسية: بينما كان الوفد السوداني يجلس في قاعة الأمم المتحدة ليستمع إلى خطابات قادة العالم عن السيادة وحقوق الإنسان، كان محروماً من ممارسة أبسط أشكال السيادة في الخارج وهي حرية الحركة. هذه المفارقة لم تغب عن وسائل الإعلام الغربية، التي سلطت الضوء على التناقض بين خطاب الجيش السوداني حول الدفاع عن السيادة في الداخل وبين عجزه عن التحرك بحرية في الخارج.

البعد الأخطر في هذا القرار يكمن في أنه سابقة ستؤثر على أي مشاركة مستقبلية للسودان في المحافل الدولية. فإذا استمر هذا النمط من القيود، فإن أي وفد سوداني سيجد نفسه محاصراً، وهو ما سيجعل السودان في موقع الدولة غير المرغوب بها. بهذا المعنى، فإن قرار واشنطن لم يكن حدثاً عابراً، بل نقطة تحول في مسار علاقة السلطة العسكرية السودانية بالمجتمع الدولي.

إن القراءة الاستقصائية الشاملة تفضي إلى خلاصة أساسية: واشنطن أرادت معاقبة الجيش السوداني دون إعلان ذلك بشكل صريح. اختارت أداة ناعمة لكنها فعالة، إذ جعلت البرهان ووفده يظهرون كأطراف معزولين فاقدين للشرعية. وبذلك أرسلت رسالة مزدوجة: للداخل السوداني بأن الجيش فقد قدرته على الانفتاح الدولي، وللإقليم بأن الرهان على البرهان محفوف بالمخاطر، وللمجتمع الدولي بأن التعامل مع هذه السلطة لن يتم إلا بشروط صارمة.

وبينما يواصل البرهان محاولاته للتمسك بالسلطة عبر القوة العسكرية، يتضح أكثر أن عزلته الدولية تتسع، وأن كل خطوة خارج الحدود تكشف هشاشته أكثر مما تظهر قوته. ومن هنا يمكن القول إن دائرة الـ 25 ميلاً في نيويورك لم تكن مجرد تقييد لحركة وفد، بل كانت مرآة تعكس تقييداً أوسع لحركة جيش بأكمله على رقعة الشطرنج الدولية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى