اخترنا لكم

صفقة الاعتراف بالفشل

علي الصراف


عندما تم توقيع الاتفاق النووي عام 2015، كانت الصين أول من تقدم بعرض تجاري واستثماري شامل لإيران، في إطار مبادرة “الحزام والطريق”.

وكان الرئيس الصيني شي جي بينغ هو الذي مهد لها عندما زار طهران في يناير 2016.

كان الإغراء الرئيسي للصين هو أن تدفق الأموال على إيران بعد رفع العقوبات، يوفر غطاء ماليا كافيا للاستثمارات الصينية، بحيث لا تعجز إيران عن تسديد التكاليف.

في ذلك الوقت، راهنت إيران على علاقاتها مع الاتحاد الأوروبي، فقدمت لشركاته الحصة الأكبر من العقود التجارية، وتم إهمال الاتفاق الاستراتيجي مع الصين، على اعتبار أنها قوة ثانوية، ولا تستطيع أن توفر غطاء سياسيا لإيران في المحافظة على نفوذها الإقليمي وتدخلاتها الخارجية.

“غطاء مالي، مقابل غطاء سياسي”. لقد كانت تلك هي المعادلة التي دفعت إيران إلى مد يد الصفقات مع الاتحاد الأوروبي بدلا من الصين.

تولي الرئيس دونالد ترامب السلطة في الولايات المتحدة، في ذلك الوقت بالذات، وموقفه المبكر ضد الاتفاق النووي، أدى إلى عرقلة الاندفاع الأوروبي نحو إيران، وجمد الكثير مما كان مزمعا من اتفاقات وعقود. حتى جاز القول إن إيران “أضاعت المشيتين”. إذ لا هي كسبت العروض الصينية ولا هي كسبت العقود مع الاتحاد الأوروبي، لتكتشف في النهاية أن الأوروبيين والأمريكيين لا يعملون بمعزل عن أحدهم الآخر، ومصالحهم متداخلة إلى درجة تسمح بالقول إنهم، من الناحية الاستراتيجية، طرف واحد.

إيران كانت تريد طرفا يغطي على تدخلاتها في العراق وسوريا واليمن ولبنان، ويتساهل مع جرائم مليشياتها. ولم تجد في الصين ذلك الطرف. ولكنها في النهاية، وتحت تأثير ضغوط إدارة الرئيس ترامب، لم تجد في الاتحاد الأوروبي ذلك الطرف أيضا.

المسألة الأهم بالنسبة لإيران لم تكن مسألة استثمارات لإعادة البناء الداخلي. نفوذها الخارجي هو الأهم. ومَنْ يعرف طبيعة النظام الإيراني، يستطيع أن يعرف لماذا. فهذا نظام قائم على مفهوم مايسمى “تصدير الثورة”، وهو نظام لا يأبه بفقر الناس ولا خراب بلادهم، بل إنه، من الناحية الأيديولوجية، يعتبر ذلك مفيدا.

هذه هي النظرية. والتخريب جزء أساسي فيها. ووظيفة الولي الفقيه هي أن يوفر الأسباب للمزيد من الظلم والجور.

هذا هو الأساس الأيديولوجي الذي يقف النظام الإيراني على قرونه. وهو الذي يحرك كل جرائم مليشياته، ويوفر لها التبرير. فكلما ساد الظلم والضلال، والفقر والخراب، كلما اقترب تحقيق هذا النظام لحلمه.

وهذا هو الأساس الذي دفع إيران إلى تجاهل عروض الصين “الاستراتيجية” سابقا، رغم أنها ظلت الشريك التجاري الأكبر لإيران. ورأت طهران أن تميل إلى طرف آخر قادر على الصمت عما ترتكبه.

الصين التي دفعت أسوأ الأثمان للجمود العقائدي، لنحو نصف قرن منذ الاستقلال عام 1949، لم تكتشف طريق التنمية والتقدم إلا عندما وضعت الأيديولوجيا جانبا. وهي لم تأت إلى إيران لتعرض غطاء سياسيا. بل مشروع عملٍ خالٍ من كل المفاهيم الأيديولوجية. وانطلاقا من هذا الأساس، الصين لا تنظر إلى طبيعة النظام السياسي أيضا. إنها تنظر في المصالح الاقتصادية التي يمكن أن تنشأ عن التعاون والاستثمار والتجارة. شيء يشبه القول: “التنمية من أجل التنمية”. فقط. لا محمولات أيديولوجية قبلها ولا تبعات سياسية بعدها.

وهذا لا يناسب إيران، ولا يغطي احتياجات نظامها. ولكنْ “مكرهٌ أخاك لا بطل”. فهي في الضائقة الراهنة، ومع استمرار العقوبات، لم تجد مفرا بالقبول بما أرجأت القبول به لخمسة أعوام.

الصفقة التي وقعتها إيران مع الصين، ضخمة نسبيا، وهي تمتد لربع قرن، ولكن الأساس فيها يقوم على شراء النفط، بسعر منخفض، بلا مال، في مقابل استثمارات تعادل قيمة ذلك النفط.

احسب لترى: فلو قامت إيران بتوريد ما يعادل مليون برميل من النفط يوميا إلى الصين، بسعر يقل بنحو 30% من أسعار السوق، فهذا ما سوف يوفر نحو 18 مليار دولار سنويا. وعلى مدى 25 عاما، هي عمر “الاتفاق الاستراتيجي” بينهما، ستكون الصين قد حصلت على نحو 450 مليار دولار، وهذا هو بالضبط حجم الاستثمارات الصينية المزمعة في إيران خلال مدة العقد.

لا أيديولوجيا، ولكن لا مال أيضا، بل مجرد تبادل تجاري خام، تستفيد منه الصين بقدر ما يستفيد منه الإيرانيون، وليس نظامهم بالضرورة.

كل ما كانت إيران تريده من “الصفقة” المعطلة مع الاتحاد الأوروبي (أو الآلية التجارية المسماة “إينستكس”) هو المال. فلما لم تحصل عليه، ما عاد ليفرق بالنسبة لنظام يريد المال لكي يمول تدخلاته الخارجية وبرامجه للتسلح، أن يتعاقد مع مَنْ لا يقدم مالا أيضا.

لقد فعل ذلك مُكرها. لتكون الصفقة نوعا من الاعتراف بالفشل، ولكن ليس لأنه كان يمكن أن يعقد مثلها مع الاتحاد الأوروبي (النفط مقابل الخدمات والمشاريع)، بل لأنه لا يدرك أنه محاصر بعجزه عن فهم الواقع. وهو بذلك زاد الطين بلّة على نفسه ثلاث مرات على الأقل:

أولا، لأن استثمارات إعادة البناء، سوف تحرّض ضده الشركات الغربية التي كانت تتطلع إلى حصتها من صفقات إعادة البناء.

وثانيا، لأن الصين لن توفر غطاء لجرائمه وتدخلاته في الخارج.

وثالثا، لأن نقص المال سوف يظل ينخر في عظام سلطة الولي الفقيه.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى