العبقري هو نابغة زمانه، وهو من يتعجب الناس من كمال إتقانه، وروعة إبداعه، هكذا تعرفه معاجم اللغة، فهل يُعقل أن يكون كل ذلك في الفشل والتخريب؟ سؤال منطقي جداً، ولكن إذا كان الفشل كاملاً، متقناً، ومبدعاً، فبالتأكيد من يقوم به هو عبقري! لأنه أتقنه بصورة يتعجب منها الناس، وفاق في إتقانه كل من سبقوه من الفاشلين، وهنا يثور سؤال أساسي: ماهي عبقرية الفشل؟ وكيف نكشف وجودها؟ وكيف نتخلص منها إن وجدت؟
في ثمانينيات القرن الماضي نشر المفكر والقائد الفلسطيني خالد الحسن “أبو السعيد”؛ رحمة الله عليه؛ كتاباً عنوانه “عبقرية الفشل”، وكان حينها الرجل الثاني في منظمة التحرير الفلسطينية بعد ياسر عرفات، وكان رئيس الدائرة السياسية في المنظمة، ومسؤول ملف العلاقات الدولية، وأبو السعيد مفكر من طراز خاص، وسياسي محنك، ارتبط بحزب التحرير الإسلامي ثم تركه، ثم عمل مساعدا لمرشد الإخوان المسلمين في سوريا المرحوم مصطفى السباعي، ثم خرج من الجماعة وأفقها الضيق المحدود، ثم أسس حركة فتح، يعني أنه في نظري المتواضع، هو ابن خلدون العصر، لأنه مزج بين العلم والتجربة، وبين السياسة والعمل الديني، وتحرك في دوائر جغرافية، ونظم وحركات متعددة.
يذكر أبو السعيد في مقدمة كتابه أن شارل ديجول مؤسس الجمهورية الفرنسية الخامسة، حكى له قصة جاسوس فرنسي عمل لحساب النازي، اعترف بجريمته، وأنه تلقى أموالاً من أجهزة النازي، ولكنه لم يرسل لهم معلومةً، ولا صورةً، ولا خريطةً، ولم يتواصل معهم على الإطلاق، ولم يقابل أحداً منهم. هذا شيء غريب…، فكيف عمل لحسابهم، وتجسس لهم … والإجابة بسيطة جدا، إن هذا الرجل كان يعمل مدير التفتيش في الجيش الفرنسي، وكان يقوم بشيء واحد فقط، وهو كما ورد على لسانه.. “كنت أختار لأخطر المهام، وأصعب المسؤوليات أضعف الأشخاص، وأكثرهم تفاهةً، وعدم كفاءة…” وهنا يعلق أبو السعيد قائلا … وتلك هي عبقرية الفشل.
والناظر في وضع السلطة الفلسطينية في رام الله، والحركات المنتسبة للإسلام في غزة؛ التي نشأت على عين إسرائيل ورضاها، حتى يتم تمزيق الصف الفلسطيني، وتحويل الصراع الداخلي بين الفصائل إلى صراع مركزي ينافس في أهميته الصراع بين الفلسطينيين والاحتلال الإسرائيلي. من ينظر في حال هذه الكيانات التي تمثل أنبل قضية عرفتها البشرية يجد أنها نموذج فريد لعبقرية الفشل، وقد كان المرحوم خالد الحسن يعنيهم ضمن من كتب الكتاب عنهم. هؤلاء الفاشلون نجحوا في تحنيط القضية الفلسطينية حتى يعتاشوا عليها، وتتضخم ثرواتهم، وينعم أولادهم برغد العيش في الغرب الأوروبي أو الأمريكي. فلا هم قادرون على تحرير الأرض بالقوة، ولا هم قادرون على حشد العالم لتحريرها بالسلام.
والمؤسف أنهم نصَّبوا أنفسهم أوصياء على جميع الدول العربية والإسلامية، ليس مسموحا لأحد أن يتخذ خطوة لا ترضيهم، ولا تتسق مع حالة الفشل العبقري الذي ينعمون فيه. فهم وحدهم الذين يعقدون اتفاقيات سرية مع إسرائيل، وللأسف لم تحقق تلك الاتفاقيات شيئا إلا المزيد من التضييق على حياة الفلسطينيين، والمزيد من خسارة الأراضي ومصادر المياه، وعلى الجميع أن يظل في حالة الفشل العبقري لا حرب ولا سلام، حتى تظل القيادة الفلسطينية بكل توجهاتها في مواقعها ويتم تأجيل القضية إلى أن تتحلل وتندثر مع تآكل أرض فلسطين.
وما أن سمعت القيادة الفلسطينية في الضفة الغربية، وفي غزة بخبر معاهدة سلام بين دولة الإمارات العربية المتحدة وإسرائيل حتى صبت جام غضبها وحنقها على الإمارات قبل أن تتم صياغة الاتفاقية، أو توقيعها، أو معرفة شروطها، ثم تحركت كل القوى التي تعتاش على قضية فلسطين من التنظيمات الإسلامية وغيرها، لتعلن حربا على من يطبع العلاقات مع إسرائيل، ونسي هؤلاء أن مقاطعة إسرائيل وعدم التطبيع معها انتهت بعد حرب أكتوبر 1973، ونسي هؤلاء كذلك أن جميع الدول تتمتع بالسيادة المطلقة، ولا يحق لأحد أن يقرر لها ماذا تفعل أو لا تفعل، ولا وصي عليها سواء من منظمات دولية أو إقليمية، وأن الخطاب العبثي الذي يتخيل أن الدول العربية تعيش تحت وصاية من وضعوا أنفسهم في موقع الوصاية دونما اختيار من أحد، مرة باسم محور الممانعة ومرة باسم المقاومة التي لم تقاوم إلا العرب الأبرياء؛ ذلك الخطاب لم يعد له قبول في هذا العصر.
للحقيقة والتاريخ فقد بدأت نهاية المقاطعة السياسية العربية لإسرائيل بتوقيع اتفاقية أوسلو بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل عام 1993، ثم اتفاقية وادي عربة للسلام بين الأردن وإسرائيل 1994، وانتهت فعلياً المقاطعة السياسية العربية لإسرائيل عندما تبنت القمة العربية المنعقدة في بيروت 2002 مبادرة السلام العربية التي لم تعرها إسرائيل أي اهتمام، وانتقل العرب من المقاطعة السياسية إلى الاستجداء السياسي دون التخلي عن شعار المقاطعة.
والحقيقة الأخرى أن كل محاولات السلام والتفاوض الجماعية مع إسرائيل قد فشلت، والحقيقة الأخيرة أن الكثير من الدول العربية ستدخل في علاقات مع إسرائيل في قادم الأيام، وأن الأمل الوحيد أن تكون قضية فلسطين حاضرة مع كل دولة من الدول التي ستقيم علاقات مع إسرائيل؛ مثلما كانت حاضرة في حالة الإمارات؛ وأن تحصل على بعض الحقوق الفلسطينية، وأن تمهد للضغط على إسرائيل للوصول إلى حل يعيد أقصى ما يمكن الحصول على من حقوق الشعب الفلسطيني، لأن السياسة هي فن الممكن، وهذا هو الممكن في هذه الظروف والمعطيات، والركون إلى حالة الفشل في الحرب والسلم ستدفع ثمنها أجيال؛ لن نستطيع أن نعوضها حقوقها الضائعة.
نقلا عن العين الإخبارية