عساكر وعمائم
مع طيّ عشرية فوضى ما أطلق عليه “الربيع العربي” وحالة السيولة السياسية الجارية في المنطقة العربية والانتقال من الاستقطابات إلى المصالحات آن الأوان كذلك لطيّ صفحة خطاب الكراهية والتحريض المباشر والغير مباشر تجاه المؤسسة العسكرية العربية وممثليها.
فما يتم تداوله إعلامياّ وعلى مستوى منصات التواصل الاجتماعي من لغة فيها من الاستنقاص للمؤسسة العسكرية وأفرادها لا يمكن أن يستمر بل يجب استثمار اللحظة المواتية لتهذيب الخطاب الإعلامي وترشيده ناحية كافة المكونات الاجتماعية.
الخطاب العدائي ليس بالطارئ بل هو قديم منذ أن ظهرت جماعات الاسلام السياسي في الأوطان بعد سقوط دولة الاحتلال التركية في مطلع القرن العشرين، حركات التحرر الوطنية في العالم العربي ارتكزت على خطاب وطني جامع تحملته الشعوب بكافة تكويناتها في سياق طرد المستعمر الأجنبي من البلاد العربية، وما شكلته الحركة الوطنية المصرية قد يكون السياق الأكثر تركيزاً وظهوراً والأهم توثيقاٍ فثورة عرابي 1919 شكلت البداية لأهم حركة تحرر وطني في العالم العربي وهي الثورة التي توصف بأنها ثورة الفلاحين والذين كانوا أول من حاول انتزاع الحق السيادي من بريطانيا.
شكلت تلك الثورة ما يوصف بالوعي الوطني وهو ما انسجمت معه القوى المجتمعية المختلفة كل في نطاقها وتحركت معه وفقاً لامتداد حركة التحرر، لم يكن أحد يدرك حتى عودة أفراد اللواء المصري الذي كان محاصراّ في بلدة الفالوجة داخل فلسطين وعادت إلى القاهرة في العام 1949 واستقبلت استقبالاً شعبياً عبر فيه المصريين عن امتنانهم لأفراد القوات المصرية التي رفضت الهزيمة أمام القوات اليهودية آنذاك وهو ما شكل العمق الوطني المصري في أفراد تلك القوة التي شكلت أول حركة تحرر وطني عربية في ثورة الضباط الأحرار وصنعت الجمهورية المصرية الأولى في يوليو 1952.
جمال عبدالناصر كان فرداّ في القوة العائدة وفرداّ مع الضباط وثم زعيماً عروبياً كان له اسهاماته الغير منكرة في دعم وتعزيز كافة حركات التحرير الوطنية في العالم العربي، استنسخت ثورة الضباط الأحرار في أكثر من بلاد عربية منها ما نجحت ومنها ما تعثرت ولكن هناك حقيقة كالشمس وهي أن كل البلاد العربية حققت الاستقلال وبسطت الشعوب العربية سيادتها على أوطانها والأهم من كل هذا أن حدود الأوطان رسمت بدماء العسكريين في كل الأقطار العربية دون استثناء.
للبلاد العربية تجربتها ولكل بلد تجربة عاشتها ضمن تحديات التحولات الدولية فلا يمكن عقلاً وشرعاً تحميل مكوّن سياسي كل النجاحات أو الإخفاقات فما مرت به البلدان العربية من تجارب خلال سبع عقود مضت فيه من التباين وفيه من ما يتحمله مسؤولياته التاريخية كل أفراد الأوطان ويبقى لكل بلد من ابناءه الذين يمتلكون التقييم فلكل المجتمعات تجاربها ومحاولاتها ولها ابنائها الذين يفاضلون ويقيمون وينصفون ويعدلون ويحاولون تصحيح المسار أن كان هناك انحراف حدث أو اخفاق تنموي وقع.
فيما كانت حركات التحرر الوطني العربي تناضل وتقاوم الاستعمار نشأت حركة مناهضة لها بتأسيس جماعة الإخوان على يد حسن البنا وهي جماعة تناقض مفهوم الدولة الوطنية وتهدف لما تعتقد به بقيام دولة الخلافة الإسلامية، تصادمت الجماعة مع الأنظمة الوطنية في عدة مراحل وفي كل البلدان العربية وأن كانت في مصر هي الأبرز نظراً لنشأة الجماعة فيها وحدة المواجهة مع النظام السياسي خاصة بعد حادثة المنشية في الاسكندرية بمحاولة اغتيال عبدالناصر وما شكلته الحادثة من تأثير عميق في مصر.
العداء بين جماعة الإخوان والنظام المصري لم يتوقف بل أن نكسة 1967 أظهرت لغة الشماتة واعتبار أن ما حدث للجيش المصري هو عقوبة إلهية على حكام مصر لكونهم يرفضون أدلجة الدولة وإخصاع الشعب لإرادة تيار ديني محدد، وهناك تحديداً تشكل خطاب العداء الصريح لكل ما هو عسكري نكاية في عبدالناصر باعتباره عسكرياً في تجاهل مقيت لقيمة هذه الفئة وما بذلته لمساعدة البلدان العربية كلها في التحرر والاستقلال وهو ما اسقط عملياً وهم دولة الخلافة فمع كل استقلال لبلد عربي كان يسقط الوهم.
بكل فجاجة تواصلت هذه اللغة الغليظة حتى مع انتصارات القوات العربية ومواقفها في حرب العبور 1973 فلقد ظلت لغة العداء الصارخ للعسكريين والاستنقاص منهم وتحميلهم مسؤوليات الاخفاقات حتى الرياضية مما شكل رأياً شعبوباً يقوم على الجهل فكل الشعوب والأمم تفتخر بأبطالها العسكريين إلا عند فئة المتأسلمين وهم يكرسون الإساءات بعد الإساءات لتشويه المجتمعات والتقليل من ما انجزته وحققته في ظل وجود حكام ينتمون للمؤسسات العسكرية.
في كل بيت عربي تتفاخر الأسر والناس بشهدائهم الجنود الذين ذهبوا إلى الحروب الوطنية لينجزوا ما عاهدوا أوطانهم عليه وهي حماية سيادة البلاد والدفاع عنها من محالات تسلل المهربين والإرهابيين والمخربين غير أن لغة الاستنقاص لا تغيب في الاعلام فمازالت هناك تغذية للعداء والكراهية تصب في قوالب الصحافة حتى بعد أن مرت عشرية الفوضى وشاهد الناس كيف حمى العسكريين بلادهم بل وحملوها على اكتافهم ونهضوا بها عندما كادت أن تسقط.
إكراماً للأمهات والاباء والأبناء والأجبال آن الوقت لوقف لغة التحريض ضد العسكريين ورجال الأمن فهؤلاء هم حوائط الأوطان واسوارها العالية التي بها تنام الشعوب في مأمن وتصحو على أمل، لا يعادي الأوطان غير الخائنين والغادرين والمؤدلجين ولن يحمي البلاد غير المؤمنين بالدولة الوطنية الذين يعرفون أن على الحدود دم شهيد وروح فاضت لأجل تراب غالٍ وليس حفنة من تراب رخيص.