لماذا تتبجح إيران بضرب أربيل؟
اعتادت إيران أن تتنصل عن مسؤوليتها عن الهجمات التي تستهدف مواقع أمريكية أو عراقية أو خليجية، وتدَع ميليشياتها في العراق واليمن ولبنان أن تعلن مسؤوليتها عنها، أو على الأقل تدع الاعتداء يمر دون أن يدعي أحد المسؤولية عنه، كي تتجنب تحميلها المسؤولية المباشرة.
لكنها أعلنت هذه المرة، بإصرارٍ وتبجح، أن حرسها (الثوري) ضرب “وكرا صهيونيا” في أربيل بإثني عشر صاروخا بالستيا! فما سر هذا الاعتراف الصريح يا ترى؟ ألا تخشى إيران من عواقب انتهاك سيادة دولة مستقلة؟ وما الذي يقنع قادة إيران بأنهم لن يعاقبوا على مثل هذه الأفعال؟
فإن كان العالم مشغولا بالحرب الروسية الأوكرانية التي أدخلته في أزمة خطيرة، فإن لكل أزمة نهاية وسوف يحين الحساب يوما، قد يكون قريبا. وإن كان العراق ضعيفا حاليا ولا يستطيع ردعها، خصوصا مع وجود من يعتبر أفعالها مقدسة، حتى وإن كانت إجرامية وغير أخلاقية ومنتهِكة للسيادة، ألا تخشى من تقديم شكوى ضدها لدى مجلس الأمن الدولي، يمكن أن تتسبب في فرض عقوبات عليها ضمن الفصل السابع؟ أم أنها لم تعد تبالي للعقوبات الدولية لأنها اعتادت عليها منذ 43 عاما ووفرت لقادتها سببا للبقاء باعتبار أنهم يقارعون “الاستكبار العالمي”؟
لم ترد إيران على اغتيال أهم عالم نووي إيراني، محسن فخري زادة، على أيدي الموساد الإسرائيلي في نوفمبر 2020، تلك الحادثة التي وقعت في العمق الإيراني، ونُفِّذتْ بدقة متناهية، رغم أنها توعدت إسرائيل بالرد عليها. ولم يكن هذا هو الاغتيال الوحيد الذي ينفذه الموساد الإسرائيلي في إيران أو ضدها، بل إن هناك اغتيالاتٍ عدة وقعت في وضح النهار في شوارع طهران نفذها الموساد الإسرائيلي، حسب تقرير نشرته جريدة التايمز البريطانية في 12 ديسمبر/كانون الأول 2020، للكاتبين البريطانيين رتشارد سبنسر وأنشيل فيفر.
كما تمكن الموساد عبر وكلائه المنتشرين في إيران من تفجير العديد من المحطات النووية الإيرانية، بل وتمكن من إدخال فيروس “ستوكسنت” إلى أنظمة التشغيل في كمبيوترات المحطة النووية الإيرانية ليدمر المعلومات ويربك العمل فيها. والأغرب أن الموساد دبَّر تفجيرا آخر بعد حادثة اغتيال فخري زادة بدقائق، للتمويه على الاغتيال، وتمكين الفريق المدبِّر له من الهرب بسهولة.
وفي السابع من أغسطس من عام 2020، تمكن الموساد الإسرائيلي من قتل الرجل الثاني في تنظيم القاعدة، أبو محمد المصري، مع ابنته مريم، وهي أرملة نجل أسامة بن لادن، حمزة، في أحد شوارع طهران. والمصري، واسمه الحقيقي عبد الله أحمد عبد الله، هو الشخص المسؤول عن تفجير سفارتي الولايات المتحدة في نيروبي ودار السلام في السابع من أغسطس عام 1998، حسب ما أفادت تقارير غربية، بينها جريدة نيويورك تايمز الصادرة في 13 نوفمبر/تشرين الثاني 2020.
لكن إيران لم تعلن عن الحادث لأنه سيكشف تواطؤها مع تنظيم القاعدة الإرهابي، الذي ارتكب أفظع الجرائم في العراق والعديد من الدول العربية والأفريقية الأوروبية، إضافة إلى الولايات المتحدة، لكنه، ويا للعجب، لم يستهدف إيران!
وفي عام 1998، أقدمت حركة طالبان، التي كانت تحكم معظم مناطق أفغانستان حينها، على اقتحام القنصلية الإيرانية في مدينة مزار شريف، وقتل أحد عشر إيرانيا، 10 منهم دبلوماسيون يتمتعون بحصانة دبلوماسية، بينما كان الحادي عشر صحفيا. لكن إيران لم تثأر ولم ترد، بل على العكس، فقد سعت بقوة إلى التقرب من طالبان، وإقامة علاقات وطيدة معها، واستضافت قادتها خلال السنوات العشرين التي كانت فيها خارج السلطة، بل استضافت أيضا العديد من قادة تنظيم القاعدة.
وفي الثامن من شهر مارس الجاري، قتلت إسرائيل ضابطين في الحرس الثوري الإيراني برتبة عقيد، هما إحسان كربلائي بور ومرتضى سعيد نجاد، في سورية، لكن إيران اكتفت باستنكار الاغتيال، وكالعادة، وعدت بأنها سترد في الوقت المناسب! لكنها لم ترد على إسرائيل، ولن تفعل، لأنها تعرف العواقب الوخيمة المترتبة على التحرش بإسرائيل. بل هي لم تأمر ذراعها المسلح في لبنان، “حزب الله”، أن يلقي حجرا باتجاه إسرائيل منذ عام 2006، عندما هاجم إسرائيل، فجاء الرد ماحقا ومدمرا لجنوبي لبنان، وراح ضحيته مئات الأبرياء ودُمِّرت فيه منازل ومبان كثيرة، ما دفع العديد من مؤيدي حزب الله للتمرد عليه، الأمر الذي دفع قائد الحزب، حسن نصر الله، للاعتراف بأنه لو كان يعلم بهذا الرد وهذه الخسائر الفادحة في الأرواح والممتلكات، لما أقدم على ضربها.
من الواضح أن النظام الإيراني أراد أن يدعي بأنه رد على إسرائيل، فاختار هدفا سهلا، وهو العراق، فهو يعلم أن العراق دولة ضعيفة، تتقاذفها الأهوال منذ عقود، وتتحارب فيها المليشيات والجماعات (السياسية) والزعامات الدينية والاجتماعية والعشائرية على تقاسم المغانم والثروات والنفوذ، وليس لديها القدرة على الرد على إيران أو أي دولة أخرى تنتهك سيادتها.
لكن أغرب ما في الأمر، أن هذا الانتهاك الصارخ لسيادة العراق، والذي أدانته العديد من دول العالم، كانت في مقدمتها السعودية والأمارات والبحرين والكويت والأردن وفرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة، قد واجهته جماعات (سياسية عراقية)، إما بالصمت أو التأييد الصريح! جماعة الإطار التنسيقي مثلا أصدرت بيانا قالت فيه إن الهجوم على أربيل (تضاربت الروايات حوله)! في محاولة للتهرب من إدانته، كسبا لود إيران، بينما الحقيقة أن هناك رواية واحدة وهي إعلان الحرس الثوري بأنه أطلق 12 صاروخا بالستيا على أربيل. بينما قالت جماعات أخرى إن هناك “قواعد للموساد في أربيل وإن من حق الجمهورية الإسلامية أن تدافع عن نفسها”! هؤلاء طبعا لا تهمهم سيادة العراق من قريب أو بعيد، وكل الذي يهمهم هو سيادة إيران وقدسية أفعال قادتها.
ويُسجَّل للحكومة العراقية أنها “دانت” الهجوم على أربيل واعتبرته “انتهاكا للسيادة العراقية”! وليس هناك وصف لهذا الموقف، سوى التعبير العراقي الدارج (أخاف صار زحمة)! لم تقدِّم الحكومة شكوى إلى مجلس الأمن الدولي، كي تدعو المجتمع الدولي للانخراط في تقييم الوضع والدفاع عن العراق وإدانة الطرف المعتدي.
لقد تخلى العراق عن مسؤوليته هذه، فتصدت لها الولايات المتحدة، إذ دعت المندوبة الأمريكية، ليندا توماس-غرينفيلد، مجلس لإدانة الهجوم الإيراني والوقوف مع العراق، ووصفت الهجوم بأنه غير مسؤول وغير مبرر. أما ألبانيا، التي تشغل حاليا عضوية مجلس الأمن، فقد وصفته بأنه “هجوم إرهابي”.
كان يمكن العراق أن يفعل المزيد، مثل طرد السفير الإيراني، والضابط في الحرس الثوري سابقا (وربما حاليا)، إيرج مسجدي، الذي أدلى بتصريحات مسيئة إلى العراق وسيادته وشعبه، وبدلا من أن يعتذر عن هذا الفعل المشين، قال إن الهجوم الإيراني على أربيل “لا علاقة له بسيادة العراق”! وكأن أربيل ليست جزءا من العراق. كما كان بإمكانه أن يطالب الولايات المتحدة بالدفاع عن العراق، بحكم اتفاقية الدفاع المشترك المعقودة بين البلدين عام 2008.
وكان بإمكان البرلمان العراقي أن يعقد جلسة طارئة، ويدين الهجوم الإيراني على عاصمة عراقية، كما فعل عندما قتلت الولايات المتحدة قائد فيلق القدس الإيراني قاسم سليماني، في غارة بطائرة مسيرة قرب مطار بغداد مطلع يناير من عام 2020، لكنه لم يفعل وكأن الأمر لا يعنيه. مع ذلك، فإن هذه المسؤولية كاملة تتحملها الحكومة العراقية، وفي حال نكوصها، كان يجب أن يتصدى لها البرلمان، أو يحاسب الحكومة على تقاعسها عن أداء أهم واجباتها، إن كان حقا يمثل الشعب العراقي.
لا شك أن الكرد في العراق وإيران والدول الأخرى غاضبون من الهجوم الإيراني على عاصمتهم أربيل، وأنهم لن يقفوا مكتوفي الأيدي إزاء هذه الاستهانة بهم. وقد اتضح لهم الآن أن العراق هو الدولة الوحيدة التي يمتلك فيها الكرد حرية ونفوذا شعبيا ورسميا قويا، وأن دعم الدولة العراقية وتعزيز قدراتها يصبان في مصلحتهم، لذلك أصبح لزاما عليهم، من أجل المصلحة القومية الكردية، السعي لتعزيز أمنها وصيانة سيادتها وتنمية اقتصادها، والتفاعل مع مكونات الشعب العراقي الأخرى من أجل تحقيق هذه الأهداف، فالعراق القوي يمكنه الدفاع عن سيادته وحماية مصالحه وتحقيق الحرية والكرامة لكل مواطنيه.
أحسب أن الهجوم الإيراني على أربيل والتباهي به علنا لن يمر بسلام، عراقيا أو دوليا أو حتى إيرانيا. فهو ابتداءً استهانة بدولة جارة ذات سيادة، وتتمتع بعلاقات دولية واسعة، ولها جذورها الحضارية الموغلة في القدم، والتي تهم العالم أجمع. وهو انتهاك صارخ للقانون الدولي ومبدأ حسن الجوار وكل ما تدعيه إيران من مبادئ وقيم، وهو مخالف لمبادئ الإسلام التي يلهج بها حكام إيران ليل نهار.
إضافة إلى ذلك فإن الهجوم على أربيل هو محاولة لخداع الشعب الإيراني بأن إيران قد ردت على إسرائيل، والحقيقة أنها لم تفعل، بل اعتدت على هدف مدني في دولة أخرى، مسالمة ومسلمة وجارة، ولم تتسبب بأي أذى لها. النظام الإيراني يعلم جيدا بأن إسرائيل لن ترد على هذا الهجوم، لأنه لا يعنيها من قريب أو بعيد، ولابد أن المسؤولين الإسرائيليين الآن يضحكون ملء أشداقهم من هذا التصرف الإيراني، ويشعرون بالارتياح والسعادة لتجنب إيران المستمر التعرض لأي هدف إسرائيلي حقيقي خوفا من ردة فعلها.
هذا الاعتداء العلني والانتهاك الصارخ للسيادة العراقية سوف يزيد العراقيين غضبا واستياء من الدور الإيراني التخريبي في العراق، ويدفع كثيرين منهم، خصوصا رجال الدين الشيعة، المترددين سابقا في إدانة إيران، إلى أن يدينوا أفعالها كما فعل آخرون، كان أبرزهم السيد حميد الياسري، الذي حاول وكلاء إيران اغتياله قبل عدة أشهر بسبب مواقفه الوطنية. كما أنه سيدفع العراقيين إلى المزيد من التلاحم والتمسك بدولتهم الوطنية التي حاول بعضهم أن يجعلها تابعة لإيران.