مَن يراقب تطورات شرق المتوسط هذه الأيام، يدرك جيدا ان تركيا باتت في سباق محموم ما بين العقوبات الأوروبية المرتقبة نهاية الأسبوع، وما بين الإستمرار في المواجهة البحرية وصولا الى صدام عسكري يبدأ بالنزاع على ترسيم المناطق الاقتصادية الخالصة والمياه الإقليمية وقد ينتهي بخريطة جديدة غير مرتسمة المعالم، ويخشى ان تتداخل عبر الحدود المتوسعة بحرا وفق مشروع “الوطن الأزرق” بما رسمّته واشنطن لحدود منطقة الشرق الأوسط الجديد.
في الموعد الفاصل لإجتماع المجلس الأوروبي الخميس والجمعة المقبلين لإقرار سلة عقوبات جديدة على تركيا بسبب تحرشاتها غير المقبولة من جيرانها المتوسطيين، يبدو ان أنقرة قررت مراجعة تحركاتها الميدانية والتراجع خطوة واحدة الى الوراء مع سحب سفينة البحث “أورتوش رئيس” من المياه الإقليمية لليونان، في محاولة لردع دول الإتحاد عن فرض عقوبات قاسية، فيما مضت بالتوازي في رفع خطابها التهديدي، وخصوصا في حق فرنسا، قائدة التمرّد الأوروبي في وجه الطموحات التوسعية للسلطان العثماني المنبعث رجب طيب إردوغان. وما تخشاه أنقرة في سرّها، كشفه موقع “المونيتور” الأميركي أخيرا بإشارته الى ان عقوبات الاتحاد الأوروبي على تركيا “قد تخّلف آثاراً “مميتة” على الاقتصاد التركي وفرص أردوغان في البقاء”.
هي مناورة جديدة تقوم بها أنقرة التي تحلم بان توسيع نفوذها الخارجي قادر على تمكينها من بسط سيادتها القمعية على مجتمع في الداخل، بات منشغلا بحملات القمع السياسي وتقييد حرية التعبير وكمّ الأفواه التي تنشغل في الوقت عينه، بجوع وفقر تتسبب في اتساع دائرتهما ضائقة اقتصادية غير مسبوقة في تاريخ تركيا الحديث، نتيجة تداعي أداء المؤشرات ودخولها الخانات الحمر، بما دفع وكالة “موديز” الى خفض التصنيف الإئتماني لتركيا من B1 الى B2 نتيجة “تآكل قدرات الاقتصاد التركي على مقاومة الصدمات”. فالليرة التركية خسرت نحو 21 بالمئة من قيمتها حيال الدولار منذ بداية العام، وبلغ العجز الإجمالي نحو 21 مليار دولار من احتياطي النقد الأجنبي، واقترضت وزارة الخزانة من السوق المحلي أكثر من 13 مليار دولار هذا العام 9 مليارات منهم خلال الشهر الأخير، وتضاعف الفارق بين أصول المصارف الحكومية من العملات الأجنبية والتزاماتها ليتجاوز العجز الحد الأقصى عند 20 بالمئة ويسجل 30 بالمئة، فضلا عن إنفاق البنك المركزي التركي “جزءا كبيرا” من رصيد احتياطي النقد الأجنبي بغية فرملة تدهور الليرة، وخفض تصنيف 12 مصرفا لمخاوف من التحكم في رؤوس الأموال.
إذا، يغرق إردوغان في وحول داخلية عمّقت أزمات تركيا السياسية والاقتصادية والمالية، بما خفّض كثيرا من شعبيته الى حد باتت تهدّد جديا مطامعه ببلوغ ولاية ثانية، فما كان منه الا الالتفات الى الخارج القريب بحثا عن متنفسات تعيد احياء العصب القومي والديني، وذلك رغم سياساته التي ادخلته في عزلة من جيرانه. ففي شمال سوريا، يتعرض جنوده لهجمات عسكرية، وفي ليبيا قطع الجيش الوطني كل قنوات الإيرادات النفطية لئلا يستفيد منها الارهابيون والميليشيات والمرتزقة وتركيا. اما في شرق المتوسط، فلم تنجح محاولات مغازلة مصر بعدم إقحامها في الخلاف المستجد مع قبرص واليونان على ترسيم حدود المياه الإقليمية والمناطق الاقتصادية الخالصة.
لن يرضخ إردوغان لسيف العقوبات الأوروبية القادمة، وإن أبدى مرونة فرملت حماوة المناورات العسكرية وعمليات البحث والإستكشاف النفطي الجارية في مياه شرق المتوسط. فأحلام السلطان الجديد تتجاوز حدود مواقفه، وهو لن يستكين الى أي طاولة حوار من دون ملف “الشطر الشمالي” لقبرص بذريعة حقوق القبارصة الأتراك في النفط، لذا يطالب بنحو 44 بالمئة من مساحة المنطقة الاقتصادية الخالصة لقبرص، حيث يبقي سفينة التنقيب “يافوز” تجول على هواها. كذلك، لن يحاور من دون ملف “الجزر اليونانية المنزوعة السلاح”، مستهدفا جزيرة كريت التي يرغب في إغتصابها وضمّها الى المنطقة الاقتصادية الخالصة التي رسمّها أخيرا مع ليبيا.
نصّب إردوغان نفسه وصيا على الشطر المحتلّ من قبرص متخطيا بذلك دور “الدولة الضامنة” الثالثة الى جانب اليونان وبريطانيا. اذ حاول قطع الطريق على دعوة الأمين العام للأمم المتحدة لعقد اجتماع لإعادة إحياء محادثات السلام في جزيرة قبرص، على ان تُحدّد بعد انتخابات الرئاسة في الشطر الشمالي في 11 أكتوبر المقبل. علما ان الأمم المتحدة تعترف بسيادة قبرص على طول مساحة الـ9.250 الف كليومتر مربع والتي تشمل أيضا الشطر الشمالي المحتل. وتعتبر أنقرة ان “لا أرضية مشتركة ورؤية لحل واضح بين الجانبين في الجزيرة”، وفق الخارجية التركية بسبب اعتبارها “أن قبرص الرومية لا تريد تقاسم السلطة والثروة الطبيعية بالتساوي مع قبرص التركية”. لكن، كيف تشترط أنقرة “تقاسم السلطة” بالتساوي بين ثلثي الجزيرة الذي تجاوز تعداده السكاني المليون نسمة، والثلث الشمالي الذي يبلغ عدد سكانه نحو 253 ألف نسمة، يضاف إليهم حملة الاقامات (من المستوطنين الاتراك البالغين نحو 122 ألف نسمة)، ليصبح الإجمالي نحو 375 ألف نسمة.
طرح غير متساو تحاول أنقرة فرضه بين أكثرية تعيش في الشطر اليوناني المنضوي تحت لواء الإتحاد الأوروبي منذ العام 2004 وتعتبر الاكثر ثراء، وبين أقلية معزولة اقتصاديا وسياسيا عن العالم باستثناء تركيا طبعا، وهي لا تنفك تحلم بالعودة الى كنف الدولة الأم لتتخلص من عزلة دولية، سياسيا واقتصاديا، فرضها الاحتلال التركي منذ غزوته للجزيرة عام 1974 وإعلانه الشطر الشمالي “دولة مستقلة” عام 1975.
أحلام إردوغان تفوق قدرته على تحقيقها. ولأنه يدرك هذا الواقع، لن يساهم كدولة ضامنة في إعادة ما سلبه قبل نحو نصف قرن. الشطر الشمالي هو مجرد “دولة تعيش في الظل” حوّلها الاحتلال التركي الى “إقليم تابع”، فهي كيان موجود في وجدان تركيا وحدها، ولا يبدو ان إردوغان في وارد التخلي عنها. وما مشروع إعادة إعمار مدينة “فاروشا” باليونانية أو “ماراس” بالتركية، او حتى ما بات مصطلحا تسميته بـ”مدينة الأشباح” Gost Town، لتعود كما كانت “ريفيرا قبرص” التي كانت أشهر المدن السياحية في فاماغوستا قبل اجتياح 1947، سوى الدليل الأوضح على المطامع التوسعية لإردوغان. وهذا ما أثار مخاوف نيقوسيا، لتعود تشترط لأي حوار، إنهاء انقرة احتلالها الجديد لقبرص عبر انتهاكها سيادة مياهها الإقليمية والتخلي عن التهديد بموجة استيطان جديدة في مدينة “فاروشا” تستكمل عبرها عملية التغيير الديموغرافي للشطر الشمالي المحتلّ.
ما استحال على “فاروشا” العودة قبلة انظار المشاهير والسياسيين من كل العالم كما كانت (50 فندقا بسعة 10 آلاف سرير)، هو كلفة إعادة الاعمار المقدّرة بأكثر من 15 مليار يورو وجائحة “كورونا”. فهل ستصبح مطامع إردوغان على شاكلة “فاروشا”، المدينة المهجورة والمتهالكة التي هجرها أهلها وطوّقها الاحتلال بسور قتل فيها كل أشكال الحياة؟
نقلا عن العربية