منصب “رئيس العراق” ومعضلة الانقسام الكردي
مع استبعاد المحكمة الاتحادية العراقية مرشح الحزب الديمقراطي الكردستاني، هوشيار زيباري، من الترشح لمنصب الرئيس، بسبب “دعاوى فساد”، دخلت عملية انتخاب رئيس جديد للعراق في أزمة.
فقد تتحول هذه الأزمة إلى دستورية، وذلك مع انتهاء المدة القانونية لانتخاب رئيس جديد للبلاد، ولعل ما يزيد المشهد تعقيدا هو حجم الانقسامات، التي تشهدها الساحة العراقية، وما قد تخلفه الدعاوى ضد “زيباري” من طعون ودعاوى متبادلة، من شأنها جميعا تأخير انتخاب رئيس جديد، والدخول في فراغ دستوري، ما لم تحدث مفاجأة ما أو توافق بين القوى السياسية العراقية، وهو ما يعني أن معركة منصب الرئاسة العراقية، دخلت مرحلة كسر العظام، خاصة في ظل تأكيد “زيباري” أن الدعاوى ضده “هدفها سياسي”، فعلى الأقل ليست هناك إدانة له، كما أن التوقيت لا يخلو من دلالات سياسية، فقد جاءت الدعاوى قبل يوم واحد من جلسة البرلمان لانتخاب رئيس للعراق، وسط تمسك الحزب الديمقراطي الكردستاني بـ”زيباري” مرشحا له.
ووفق العُرف السياسي المتبع في العراق منذ عام 2005، فإن منصب رئيس الجمهورية هو من نصيب الأكراد، والبرلمان للسُّنة، والحكومة للشيعة، ووفق اتفاق التحالف الاستراتيجي بين الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني، فإن منصب رئيس العراق هو من نصيب “الاتحاد”، بينما منصب رئيس الإقليم هو من نصيب “الديمقراطي”، وعلى هذا الأساس، شغل منصب رئيس العراق منذ عام 2006 كل من الراحلَين جلال طالباني وفؤاد معصوم على التوالي، ومن ثم الرئيس المنتهية ولايته برهم صالح، فيما شغل منصب رئيس الإقليم كل من الرئيس مسعود البارزاني ومن بعده نيجيرفان البارزاني.
ورغم هذا العُرف والاتفاق فإن الانقسام كان سمة دائمة للموقف الكردي، ولعل الانقسام الحاصل حاليا بشأن المرشح الكردي لرئاسة العراق خلال الدورة المقبلة هو استمرار للانقسام الذي حصل عام 2018 بشأن الاستحقاق نفسه، ما يؤكد أن الانقسام المزمن بين الحزبين الكردستانيين الكبيرين له أبعاد إدارية وتنظيمية وحزبية في إطار التنافس على السلطة والإدارة والزعامة، وقد تجسد ذلك عمليا في بقاء كل من السليمانية، التي هي معقل للاتحاد، وأربيل، التي هي معقل الديمقراطي، مركزين إداريين وتنظيميين وسياسيين وأمنيين طوال العقود الماضية، دون التمكن من إنتاج مركزية توحد الإدارتين في الإقليم لمواجهة الاستحقاقات أولا، ولإنتاج عملية سياسية موحدة إداريا وسياسيا في الإقليم ثانيا.
مع كل استحقاق رئاسي، تنطلق حرب الاتهامات المتبادلة بين الحزبين الكرديين، يقول أنصار “الديمقراطي” إن “الاتحاد” يقدم مرشحيه “خارج التوافق الكردي”، فيما “الاتحاد” يوجه التهمة نفسها للديمقراطي، وفي كل مناسبة أيضا يقول “الديمقراطي” إن هذا المنصب “من حق الديمقراطي”، طالما أنه يشكل الكتلة الكردية الأكبر في البرلمان، فيما “الاتحاد” يرد بأن اتفاق التحالف الاستراتيجي بينهما أقر بأن المنصب المذكور من حقه، وأن أي خلاف لما سبق يعني تبديل المناصب بين الحزبين على منصبي رئاستي الجمهورية والإقليم.
يقول “الديمقراطي” أيضا إن المعادلات تغيرت مع تزايد شعبيته وتراجع “الاتحاد” بعد رحيل زعيمه التاريخي، جلال طالباني، فيرد “الاتحاد” بأن جُل ما يسعى إليه “الديمقراطي” هو إطباق سيطرته على كامل الإقليم لصالح “حكم العائلة”.
وفي ظل هذا الجدل سرعان ما تحضر نظريات المؤامرة، وربط الأمور بالأحداث التي جرت للإقليم خلال السنوات الماضية، لا سيما خسارة كركوك عقب الاستفتاء.
وفي الواقع، إذا كانت قضية انتخاب رئيس للعراق أبرزت على الدوام عمق الانقسام الكردي-الكردي، وتمترس كل طرف خلف مرجعياته الحزبية والمناطقية والعائلية، وممارسة كل طرف الندية تجاه الآخر، انطلاقا من تلك المرجعيات والمحددات، فإن الغائب الأكبر في الجدل الجاري بين أنصار الطرفين، هو كيفية فهم موقع “الرئاسة العراقية” في التقاطعات والتجاذبات والصراعات الإقليمية والدولية على العراق، والثابت هنا هو أن انتخاب رئيس جديد للعراق ليس ببعيد عن التدخلات والتوافقات المحلية والإقليمية والدولية، ولعل هذا ما يقف وراء الزيارات المتتالية التي يقوم بها قائد فيلق القدس الإيراني، إسماعيل قاآني إلى العراق، وهي زيارات باتت أسبوعية تقريبا منذ الانتخابات البرلمانية العراقية المبكرة، ولها هدف واحد، هو ترتيب المشهد العراقي المقبل بما يتناسب والسياسة الإقليمية لإيران في العراق والمنطقة عموما.
وثمة من ينظر إلى الانقسام الكردي بشأن منصب رئيس العراق على أنه “تقليدي وليس بجديد”، وأنه أصبح جزءا من قواعد اللعبة السياسية بين الحزبين الكرديين بغية حصول كل طرف على أكبر قدر من المكاسب والامتيازات، لكن مثل هذا الاعتقاد لا يلغي احتمال السيناريو الأخطر في الانقسام الكردي-الكردي الجاري، في ظل تلميح كل طرف باحتمال مقاطعة الآخر، ما قد يعمّق الانقسام الكردي في الفترة المقبلة إلى حد المقاطعة بين إدارتي السليمانية وأربيل، إن لم نقل الصدام بينهما كما حصل في فترات سابقة، أو على الأقل تحويل إدارة الإقليم إلى إدارتين منفصلتين على أرض الواقع، بما يترتب على ذلك من تأثير إقليمي ودولي.