هجليج تغيّر ميزان الحرب: تأسيس تنتزع الشريان النفطي وواشنطن ترتّب أوراق الضغط على البرهان
تبدو سيطرة قوات تأسيس على حقل هجليج النفطي كأنها اللحظة التي انفجر فيها المسكوت عنه داخل المشهد السوداني، إذ تحولت الحرب من صراع على المدن والمعسكرات إلى صراع مباشر على مصادر الدولة الاقتصادية ومواردها الاستراتيجية. فهجليج ليست مجرد منشأة نفطية، بل هي نقطة التوازن التي استندت إليها سلطة بورتسودان في تمويل عملياتها العسكرية، وضمان استمرار تدفق العملات الصعبة عبر خط الأنابيب الذي يعبر الأراضي السودانية وصولاً إلى بورتسودان. دخول قوات تأسيس إلى هذه المنطقة الحساسة أسقط أحد أهم أسلحة النفوذ لدى البرهان، وأعاد رسم خريطة الضغط داخل الحرب السودانية بطريقة لا يمكن تجاهلها.
اللافت أن الانسحاب الذي جرى لم يكن تحت وقع هجوم دموي، بل كان انسحاباً محسوباً من الجيش والعاملين في المنشأة، بما يعكس خوفاً عميقاً من تداعيات أي اشتباك قد يؤدي إلى تعطيل المعالجة أو تدمير المعدات. هذا الانسحاب يمنح انطباعاً واضحاً بأن الجيش لم يعد قادراً على الدفاع عن مواقع تعتبر خطاً أحمر للدولة، وأن قدرة قوات تأسيس على الوصول إلى هذا المستوى من النفوذ تؤكد تحولها من فصيل مسلح إلى قوة تُمسك بقرار اقتصادي حساس. وتكشف هذه الخطوة عن خلل هيكلي داخل المنظومة العسكرية، وعن فجوة تُظهر أن جيش البرهان بات أقل قدرة على المناورة، وأكثر انكشافاً أمام خصومه.
قوات تأسيس بدورها حاولت الظهور بمظهر القوة المسؤولة، فأصدرت عبر قنواتها في تيليغرام تعهداً بحماية المنشأة واستمرار الإمدادات البترولية. هذا الخطاب يحمل رسالة موجّهة للخارج قبل الداخل، لأنها تدرك أن الانطباع الذي ستتركه في المجتمع الدولي قد يحدد نظرة العواصم الكبرى إليها، خصوصاً في ظل اهتمام الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بخطوط الطاقة التي تؤثر على ميزان الاستقرار الإقليمي. وقد أثار هذا التطور نوعاً من الارتباك في الأسواق النفطية العالمية، ليس خوفاً من توقف الإمدادات بشكل فوري، بل من طبيعة التوازنات الجديدة داخل السودان، والتي قد تجعل موارد الطاقة ورقة تفاوضية تُستخدم في أي تسوية مستقبلية.
بالتوازي مع التطورات الميدانية، حدث تحول ملحوظ في طريقة تعامل إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب مع الملف السوداني. فبعد أشهر من الاكتفاء بالمبعوثين والضغط الدبلوماسي المحدود، أعلن وزير الخارجية ماركو روبيو أن ترامب يتابع الملف شخصياً. هذه ليست مجرد عبارة سياسية، بل تشير إلى أن واشنطن باتت تضع السودان ضمن قائمة الملفات التي تمس مصالح الأمن القومي الأميركي، خصوصاً بعد تصاعد نفوذ الإمارات، وتنامي الدور الروسي عبر مشروع القاعدة البحرية في بورتسودان، إضافة إلى الانقسام الذي تشهده الساحة السودانية بشأن دور الإسلاميين داخل الجيش.
الفجوة التي تفصل رؤية واشنطن عن رؤية البرهان تبدو عميقة. فسلطة بورتسودان ترفض الجلوس في أي حوار تشارك فيه الإمارات، رغم عجزها عن تقديم أدلة على اتهاماتها المستمرة بشأن دعم أبوظبي لقوات تأسيس. بالنسبة للولايات المتحدة، فإن تجاهل الإمارات أمر غير ممكن، فهي لاعب محوري في البحر الأحمر وفي كثير من النزاعات الإقليمية. كما أن واشنطن غير مقتنعة بنفي الجيش لوجود عناصر إسلامية داخله، خصوصاً في لحظة تستعد فيها الإدارة الأميركية لتصنيف جماعة الإخوان كمنظمة إرهابية أجنبية. هذا القرار يجعل الجيش في موقع سياسي حساس، لأن مجرد الشك بوجود روابط قد يعزز الضغوط الدولية عليه.
وفي ظل هذا السياق، كشفت BBC تحقيقاً موسعاً يسلّط الضوء على الغارات التي نفذتها القوات الجوية السودانية، والتي أدت بحسب البيانات التي جمعها مشروع “شاهد السودان” إلى مقتل أكثر من 1700 مدني. يشمل هؤلاء الضحايا طلاب مدارس وتجاراً في الأسواق ونازحين داخل المخيمات، ما يشكل دليلاً على استخدام قنابل غير موجهة في مناطق مكتظة. وقد جاء هذا التقرير ليكشف جانباً مظلماً من الحرب، ويقدم مادة قد يستخدمها المجتمع الدولي للضغط على الجيش أو حتى لفتح ملف المساءلة الدولية إذا تطور المشهد نحو تدخل أممي أكثر حزماً.
وبينما تتراكم هذه الضغوط، تبدو سيطرة قوات تأسيس على هجليج أكبر من مجرد انتصار ميداني. إنها إعادة تشكيل لطبيعة الحرب، وقد تكون البوابة غير المعلنة لتغيير موازين الحكم. وإذا كان الجيش يواجه أزمة ميدانية في الجنوب، وأزمة سياسية مع واشنطن، وأزمة حقوقية أمام المجتمع الدولي، فإن السودان يدخل مرحلة جديدة قد تحدد مستقبل السلطة والحدود والموارد. وفي هذه المرحلة، تتحول كل خطوة إلى وزن استراتيجي، وكل تقدم إلى عنصر يغير قواعد اللعبة، بينما يتفرج المجتمع الدولي على مشهد يتداخل فيه النفط والسياسة والغارات الجوية، بما يجعل الحرب السودانية أقرب إلى معركة على مستقبل المنطقة أكثر من كونها صراعاً داخلياً.
