اخترنا لكم

واشنطن-موسكو.. طلعات ما قبل المعركة


يكاد أمن وسلام العالم يتعرّض لخطر داهم من جَرّاء تصاعد الأحداث بين الولايات المتحدة وروسيا الاتحادية.

والجميع يعلم أن الصدام بين هذين البلدين يمكن أن يُدخِل العالم في مصير كارثي، لا سيما إذا كانت المواجهة نووية.

ولعل ما يزيد الاضطراب في الأجواء الدولية هو أن أحدًا غير قادر بدقة على تحديد اتجاهات الأحداث وما إذا كانت تمضي ناحية القارعة، أم تعود إلى درب التفاهمات ومحاولة التعايش المشترك، ومن غير حاجة إلى حروب لا فائدة منها أو طائل من ورائها.

قبل بضعة أيام، كان سيرجي ريابكوف، نائب وزير الخارجية الروسي، يؤكد أن التحضيرات لعقد قمة بين الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين، والأمريكي جو بايدن، ماضية على قدم وساق، حتى وإن لم تأخذ شكل اللقاء الرسمي واكتفت باللقاء عبر الدوائر التليفزيونية كما جرى بين “بايدن” ونظيره الصيني شي بينج مؤخّرًا.

قبل هذا الإعلان، اهتمت كثيرًا جدًّا الدوائر المعنيّة بأحوال العلاقات الأمريكية-الروسية، بزيارة ويليام بيرنز، مدير الاستخبارات الأمريكية الخارجية، إلى روسيا قبل بضعة أسابيع، وكانت علامة الاستفهام الحاكمة للمشهد هي عينها، أي هل هي زيارة لتهدئة الخواطر أم للاستعداد للأسوأ الذي لم يأتِ بعدُ.

على جانب آخر، تبدو ملامح ومعالم الصراع، الذي يكاد يبلغ درجة النووي، واضحة وجليّة في عيون العالم برمّته.

خذْ إليك على سبيل المثال لا الحصر ما بات يُعرف بـ”طلعات ما قبل المعركة”، التي تقوم بها القاذفات الاستراتيجية الأمريكية عند حدود روسيا.

في الثالث والعشرين من نوفمبر/تشرين الثاني، قدَّمَ وزير الدفاع الروسي سيرجي شويغو، خلال مباحثاته مع وزير الدفاع الصيني، وي فنج خه، بيانات جديدة عن طلعات الطيران الاستراتيجي الأمريكي بالقرب من حدود روسيا.

رصدت منظومات الدفاع الجوي الروسي نحو 30 طلعة الشهر الماضي.. وبات التساؤل: ما الهدف من تلك الطلعات؟ وهل هي استعداد لمعركة بالفعل قد تجري بين الدولتين؟

يشير عدد من الخبراء العسكريين والاستخباراتيين إلى أن المناورات لها هدفان رئيسيّان: الأول هو تطوير عمليات قواتهم من الاستطلاع بالأقمار الاصطناعية إلى أنظمة الاتصالات والمراقبة الأرضية، والثاني هو فحص وحساب وفهم كيفية عمل المنظومات الروسية المضادة والتجهّز لها.

يرى الروس أن الطلعات الأمريكية لا تعني إلا شيئًا واحدًا، وهو التدريب على توجيه ضربة أمريكيّة نووية لروسيا من اتجاهين.

هنا يشير الخبير العسكري ألكسندر ميخائيلوفيسكي، إلى أن محاكاة هجوم متزامن من الغرب والشرق هو أمر يعني استعداد واشنطن لتعطيل الإمكانات النووية للجيش الروسي بالكامل دفعةً واحدة، وتجنُّب تلقّي ضربة جوية.

تبقى المناورات في كل الأحوال أمرًا طبيعيًّا، كما يقول العسكريون، وإلا فإن مهارات الطيارين يمكن أن تصدأ مع مرور الوقت.. لكن غير المفهوم والمثير للقلق والشك في الطلعات الأمريكية الأخيرة هو أنها تجري من خلال عدد كبير من الطائرات، التي تعمل في اتجاهات عدة في وقت واحد، الأمر الذي يمكن أن يعطي مؤشرًا مقلقًا لتوجهات الأحداث من واشنطن إلى موسكو.

هل يشك الأمريكيون في نيّات القيصر بوتين؟

مؤخرًا كتب أحد أساطين المحافظين الجدد، جون بولتون، والذي شغل منصب مستشار الأمن القومي في ولاية ترامب اليتيمة، يقول: “إن الغرب مخطئ اليوم بشأن نيّات الرئيس الروسي بوتين، كما كان مخطئًا بشأن نية السوفييت قبل ستين عامًا في كوبا.. فعلى الرغم من النقاش الموسع في الغرب، تبقى أهداف روسيا غامضة كما أهداف الرئيسين بوتين والبيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو”.

يشير “بولتون” إلى أن بوتين يتبع استراتيجية كبيرة في “الجوار القريب”، بينما يتبع الغرب نهجًا فائق الصغر.. تدرس موسكو فرصها في “المنطقة الرمادية” بين الحدود الشرقية لحلف شمال الأطلسي وحدود روسيا الغربية.. لا تضم هذه المنطقة أوكرانيا وبيلاروسيا، بل أيضًا مولدوفا وجمهوريات القوقاز.

تسعى روسيا لتعزيز وجودها في البحر الأسود، بل وبسط هيمنتها، ولهذا يرى الأمريكيون أن المشهد لن يتوقف عند حدود تهديد أوكرانيا، بل ينسحب أيضًا إلى جورجيا والدولتين الأوروبيتين الأطلسيتين، بلغاريا ورومانيا.

روسيا-بوتين ترى تسارع الأحداث على الأرض، لا سيّما بعد أن دعت واشنطن إلى دعم أوكرانيا في نزاع عسكري تراه محتملاً مع روسيا.

وبحسب القناة الإخبارية الأمريكية الشهيرة “سي. إن. إن”، فإن واشنطن تدرس إرسال مجموعة من المستشارين العسكريين وأسلحة حديثة إلى أوكرانيا.
هذه الإجراءات حكمًا سوف تزيد من كفاءة الجيش الأوكراني القتالية، وتمنع روسيا من “عمليات عدوانية”.

لن يقبل الروس بهذا الوضع، بل وسوف يعتبرونه خطا أحمر يستوجب الردّ، فانتشار مباشر للجيش الأمريكي على حدود روسيا يعتبر تحدّيًا خطيرًا يجب عدم التسامح معه من وجهة نظر العسكريين والسياسيين الروس، الأمر الذي يعود بنا مرّة أخرى إلى دائرة الصدام.

لن تخلو جَعبة روسيا أول الأمر من أوراق رابحة ردًّا على أوهام الضربات النووية الأمريكية حال حدوثها، ذلك أن موسكو تتحسب حتمًا لمثل هذا السيناريو عبر مجالين، جوًّا وبحرًا.. كيف ذلك؟

أما في الجو، فيكفي النظر إلى الترسانة الصاروخية الروسية من منظومات الصواريخ الاستراتيجية المتنقلة، مثل يارس وتوبول، وهناك صواريخ روسية جهنمية من عيّنة سارامات، ذات الرؤوس النووية المتعددة.

أما بحرًا، فيكفي الحديث عن الغواصات الروسية الكهرومائية من طراز بوسيدون، القادرة على إحداث تسونامي في شرق أو غرب الحدود الأمريكية، ما يعني أن فكرة الضربة الأولى والانتصار الساحق الماحق الأمريكي لن تحدث، وربما يكون هذا رادعًا استراتيجيًّا للمخططين الأمريكيين.

من جانب آخر، فإن الروس يخططون كذلك لمواجهة الانتشار الصاروخي الأمريكي في دول أوروبا الشرقية وبالقرب من حدودهم الغربية، ويرون أنّ هناك حالة عَماء تاريخيّ لدى بعض دول تلك المنطقة، والتي لم تَتَّعظ مما حدث خلال الحرب العالمية الثانية، وبخاصة بولندا.

ولعل التصريحات الأخيرة للأمين العامّ لحلف الناتو، ينس ستولتنبرج، عن إمكانية نقل ترسانات نووية موجودة على الأراضي الألمانية إلى أراضي دول أوروبا الشرقية، تجعل المسارات السياسية بين موسكو من جهة، وواشنطن وبروكسل من جهة أخرى تتعقد إلى أبعد حدٍّ ومدّ، بل تتوارى وتفسح الطريق لمخططات العسكريين.

بل أكثر من ذلك، فإن مثل ذلك التصريح يعني أن مكان الحرب النووية القادمة، والتي لم تسحب من جدول الأعمال على الإطلاق ويمكن أن تندلع في أي لحظة وغير المستبعدة تمامًا، ستكون تلك الدول التي  تظهر فيها أسلحة نووية.

هل ستبادر روسيا بضربة ما، وقائية أو غير وقائية؟

قد لا يهمّ تحديد الجواب، فالأهم هو أن سلاحًا نوويًّا ربّما يُستخدَم في المواجهات بين الجانبين، ما يعني انفلات الجِنّي النووي من القمقم.

هنا يلاحظ المرء أن الألمان يريدون إبعاد الأسلحة النووية عن أراضيهم، إذ لديهم ما يكفي من ذكريات مريرة مع الأسلحة التقليدية في زمن الحرب العالمية الثانية، وعليه يبقى التساؤل الأخير قبل الانصراف: أيّ مؤشر للبوصلة الأمريكية نرى؟ وهل واشنطن تعمل حسب القاعدة التقليدية “إنْ أردتَ السلم فاستعِدّ للحرب”؟.. إلى قراءة قادمة بإذن الله.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى