وفد البرهان في دائرة مغلقة: رسالة واشنطن الصامتة نحو القيادة السودانية

على الرغم من أن الجمعية العامة للأمم المتحدة تمثل أكبر محفل دبلوماسي يجمع قادة العالم سنوياً، إلا أن المشاركة السودانية في دورتها الثمانين تحولت إلى تجربة قاسية تفضح عزلة النظام القائم في بورتسودان. فحين أعلنت وزارة الخارجية الأميركية فرض قيود على حركة وفد عبد الفتاح البرهان في نيويورك، لم يكن ذلك قراراً إدارياً تقنياً بقدر ما كان رسالة سياسية عميقة المغزى. الرسالة واضحة: المجتمع الدولي لا يتعامل مع الجيش السوداني وقادته بوصفهم طرفاً شرعياً جديراً بالثقة، بل كقيادة مثيرة للريبة محاصرة حتى وهي داخل قاعات الأمم المتحدة.
ما يلفت الانتباه أن هذه الخطوة لم تُتخذ بشكل علني كإجراء عقابي مباشر مثل العقوبات الاقتصادية أو حظر السفر، بل جرى تمريرها عبر أداة بروتوكولية دقيقة تنظمها قوانين البعثات الأجنبية الأميركية. غير أن هذا الأسلوب في حد ذاته يمثل قمة الذكاء الدبلوماسي، إذ يجرد الوفد السوداني من القدرة على التحرك بحرية ويمنعه من بناء أي اتصالات جانبية أو لقاءات غير رسمية، وهي في العادة أهم ما يحصل في مثل هذه المؤتمرات. فإذا كان الحضور السوداني في القاعة شكلياً، فإن غياب الفاعلية على الهامش جعله عملياً حضوراً من دون معنى.
القرار الأميركي لم يكن وليد اللحظة، بل سبقته مناقشات طويلة داخل الدوائر الدبلوماسية. فمنذ اندلاع الحرب بين الجيش وقوات الدعم السريع، ظلت واشنطن تتعامل بحذر مع الطرفين، متجنبة إظهار انحياز صريح لأي منهما. لكن تقارير المنظمات الحقوقية عن الانتهاكات الممنهجة في دارفور وشمال كردفان لعبت دوراً محورياً في دفع الإدارة الأميركية إلى تغيير أسلوبها. ففي الاجتماعات المغلقة بين وزارة الخارجية والكونغرس، جرى تداول مقترحات بفرض عقوبات شخصية على البرهان وكبار ضباطه. إلا أن الخيار الذي رُجح في النهاية كان أقل صخباً وأكثر فعالية: تقويض قدرة الوفد السوداني على الحركة والنشاط خلال وجوده في نيويورك.
هذه الآلية العقابية تميزت بطابع مزدوج. فمن جهة، هي قانونية تستند إلى لوائح مكتب البعثات الأجنبية الذي يمنح الحق لوزارة الخارجية في تحديد نطاق حركة الوفود. ومن جهة ثانية، هي سياسية بامتياز لأنها تمنع الوفد من الانخراط في أنشطة دبلوماسية خارج إطار الأمم المتحدة. النتيجة أن الوفد بدا وكأنه جُرد من صلاحياته، فاقتصر حضوره على المشاركة الشكلية في جلسات عامة لا تعكس وزناً سياسياً، وهو ما جعل السودان يقف على هامش التفاعلات الكبرى.
غياب البرهان عن قيادة الوفد زاد من وقع هذه العزلة. فبدلاً من الظهور أمام العالم كقائد واثق، آثر الرجل البقاء بعيداً وتكليف رئيس الوزراء كامل إدريس بمهمة رئاسة الوفد. هذا القرار وإن بدا في ظاهره تفويضاً بروتوكولياً، فإنه في الواقع عكس قلقاً عميقاً من أن يتحول ظهوره الشخصي إلى مشهد إحراج لا يُمحى. ففي عرف الدبلوماسية الدولية، القائد الذي لا يستطيع أن يتحرك بحرية في بلد المضيف يُنظر إليه كزعيم فاقد للشرعية ومكشوف أمام خصومه.
في الكواليس، تكشف مصادر دبلوماسية أن قيود واشنطن على الوفد السوداني تضمنت أيضاً مراقبة دقيقة للقاءاته، بحيث لم يُسمح لأي مسؤول أميركي أو دولي بارز بعقد اجتماع ثنائي معه خارج القاعة الأممية. هذا النوع من العزلة يوجه ضربة مباشرة لمحاولات السلطة في بورتسودان تسويق نفسها كحكومة انتقالية مقبولة. فالجيش كان يراهن على أن وجوده في نيويورك سيفتح الباب أمام حوارات جانبية قد تعيد ترميم صورته، لكن العكس هو ما حدث: الوفد وجد نفسه محاطاً بجدار غير مرئي يمنعه من التواصل مع أي طرف مؤثر.
الإعلام الأميركي والأوروبي بدوره لعب دوراً في تكريس هذه العزلة. فقد نقلت الصحف الكبرى الخبر بأسلوب لا يخلو من السخرية، مشيرة إلى أن الوفد السوداني بات مقيداً بدائرة جغرافية صغيرة لا يستطيع تجاوزها من دون إذن مسبق. هذا النوع من التغطية لا يكتفي بتقديم المعلومة، بل يبني حولها سردية سياسية تصور الوفد كعنصر فاقد للأهلية، وكأن قيادته العسكرية تعيش عزلة على أرضها وتمتد معها حتى خارجها.
ردود الأفعال في العواصم الإقليمية لم تقل أهمية. فدول مثل مصر والإمارات والسعودية التي تحاول إيجاد توازن في مواقفها تجاه أطراف الصراع السوداني قرأت القرار الأميركي كإشارة على أن البرهان لم يعد يحظى بشرعية دولية يمكن الاعتماد عليها. هذه الرسائل وإن لم تُعلن صراحة، إلا أنها تعني في لغة الدبلوماسية أن حجم الدعم للجيش قد يخضع لإعادة تقييم. فالعواصم الإقليمية عادة ما تراعي مؤشرات القبول الدولي عند حساب رهاناتها السياسية.
أما على المستوى السوداني الداخلي، فقد كان للقرار أثر رمزي لا يستهان به. المواطن السوداني الذي يتابع أخبار الحرب والمعاناة اليومية رأى في هذه القيود دليلاً جديداً على أن قيادته العسكرية عاجزة عن فرض احترامها في الخارج. المفارقة أن الخطاب الرسمي للبرهان يركز على الدفاع عن السيادة الوطنية، لكن مشهد الوفد المحاصر في نيويورك قوض هذا الخطاب تماماً. فمن لا يستطيع تجاوز 25 ميلاً في الخارج، كيف يمكن أن يقنع شعبه بأنه قادر على حماية سيادة بلد مترامي الأطراف مثل السودان؟
ما يجعل هذا الإجراء الأميركي أكثر تأثيراً أنه جاء في لحظة كان الجيش يحاول فيها إعادة بناء صورته بعد شهور من التراجع الميداني والسياسي. فالمؤسسة العسكرية تعيش حالة إنهاك نتيجة الحرب الطويلة، وتواجه في الوقت ذاته اتهامات متصاعدة من منظمات دولية. وفي مثل هذه الظروف، كان من المفترض أن توفر الجمعية العامة للأمم المتحدة نافذة للعودة إلى الساحة الدولية. لكن واشنطن أغلقت هذه النافذة بإحكام، مكتفية بترك الجيش يواجه نفسه داخل قفص العزلة.
إن تقصي خلفيات هذا القرار يكشف عن تحول في طريقة تفكير الولايات المتحدة تجاه السودان. فبدلاً من العقوبات التقليدية التي قد تثير نقاشاً سياسياً معقداً، فضلت الإدارة الأميركية ممارسة نوع من الدبلوماسية العقابية الصامتة، حيث لا يُعلن عن عقوبات رسمية لكن يتم فرض قيود تفرغ المشاركة السودانية من مضمونها. هذه الاستراتيجية تهدف إلى إضعاف مكانة الجيش من دون منحه فرصة لاستغلال العقوبات كذريعة داخلية لإثارة خطاب سيادي أو تعبوي.
في النهاية، يظهر أن تقييد حركة وفد البرهان لم يكن إجراءً تقنياً بقدر ما كان خطوة سياسية مدروسة ضمن سياق أوسع من الضغوط الدولية على المؤسسة العسكرية السودانية. فقد جُرّد الوفد من أدواته الدبلوماسية وحُرم من أي قدرة على المناورة، ليخرج من نيويورك بخسارة مضاعفة: حضور بلا أثر، ومشاركة بلا جدوى، وصورة علنية عن عزلة يصعب إخفاؤها.
وبذلك يمكن القول إن واشنطن لم تحتج إلى إصدار بيان قوي أو إعلان عقوبات جديدة كي ترسل رسالتها. كل ما فعلته هو رسم دائرة جغرافية صغيرة حول وفد السودان في مانهاتن، لكنها كانت كافية لتكشف للعالم بأسره أن السلطة العسكرية في بورتسودان لم تعد قادرة على التحرك بحرية لا في الداخل ولا في الخارج، وأنها في نظر المجتمع الدولي تعيش عزلة تامة، تحاصرها الصور بقدر ما تحاصرها القرارات.