كيف نفهم التحولات التركية؟
تتأثر السياسات الخارجية للدول وخياراتها السياسية بجملة تطورات إقليمية ودولية.
ولعل درجة التأثر لها علاقة بالموقع الجغرافي للدولة، وبمدى انخراطها في الأحداث الجارية، وعلاقة ما سبق بالوضع الداخلي للبلاد، وهي عوامل تشكل من بين أمور أخرى محدداتٍ مهمةً في السياسة الخارجية لأي دولة.
وانطلاقا من هذا التصور، فإن تركيا تبدو الدولة الأكثر تأثرا بدور موقعها الجغرافي، نظرا لتوسط هذا الموقع بين قارات أوروبا وآسيا وأفريقيا، ولأهميته في الصراعات الجارية بين الدول الكبرى، لا سيما خلال الحرب الباردة بين حلفي الأطلسي ووارسو سابقا، واليوم بين كل من الولايات المتحدة وأوروبا والحلف الأطلسي من جهة، وروسيا والصين من جهة ثانية، وعليه يمكن القول إن جميع هذه الدول حرصت طوال العقود الماضية على إقامة علاقات جيدة مع تركيا، انطلاقا من المصالح المشتركة، وفي هذا الإطار ينبغي النظر إلى الحرص الأوروبي والعربي، لا سيما المصري والخليجي، على التعامل الإيجابي مع الإشارات والمواقف التركية، التي تشي بتحول في سياساتها تجاه هاتين الدائرتين الحضاريتين والجغرافيتين المهمتين، خاصة أن دول هاتين الدائراتين تعاملتا بكثير من الإيجابية مع تركيا.
التحولات التركية تظهر على شكل رغبة أنقرة في الانفتاح على حل المشكلات والخلافات، التي نشبت بينها وبين العديد من دول الجوار والعالم خلال العقد الماضي، وهي خلافات يمكن القول إنها نشبت عن ثلاثة عوامل أساسية وتّرت علاقاتها مع الخارج، وهذه العوامل هي:
1-جعْل تركيا الإسلام السياسي محددا في علاقاتها مع دول العالم العربي بدلا من العلاقات القائمة على المصالح والقانون الدولي، وقد أثر هذا التوجه سلبا على علاقات تركيا مع الدول العربية.
2-التدخلات التركية العسكرية في العديد من الدول العربية، لا سيما سوريا وليبيا والعراق، وكذلك التصعيد في البحر الأبيض المتوسط، خاصة تجاه اليونان وقبرص بحجة التنقيب عن موارد الطاقة، ما أدى إلى اصطفاف أوروبي، تحديدا فرنسي، حول اليونان وقبرص ودعمهما في مواجهة السياسات التركية، وفي الحالة العربية استعادة الحساسية العربية تجاه المشاريع التركية، التي أخذت شكل التوسع.
3-كسر تركيا القواعد، التي حددت علاقتها مع الغرب والحلف الأطلسي، لا سيما الولايات المتحدة الأمريكية، عندما ذهبت بعيدا في علاقتها مع روسيا بعقدها صفقات شراء منظومة صواريخ “إس-400″، كذلك خرق العقوبات الغربية، التي فُرضت على إيران، على خلفية برنامجها النووي، ما جعل العلاقات التركية-الغربية تحكمها خلافات وإشكاليات.
واليوم، مع الحديث التركي عن الرغبة في تصحيح العلاقات مع هذه الأطراف والدول، تبدو تركيا كأنها بصدد مراجعة سياساتها وخياراتها، على شكل العودة إلى نظرية “صفر مشكلات”، التي طرحها رئيس الوزراء التركي الأسبق، أحمد داوود أوغلو، قبل أن ينشق عن حزب “العدالة والتنمية” الحاكم ويؤسس حزبا جديدا باسم “المستقبل”.
لكن السؤال، الذي يؤرق الجميع هو هل التحول التركي حقيقي واستراتيجي أم أنه تكتيكي نابع من الصعوبات الداخلية والخارجية لتركيا؟
في انتظار وضوح حقيقة هذا التحول التركي، يمكن القول إن جميع الأطراف المعنية بسياسة تركيا والعلاقة معها تعاملت بإيجابية مع هذا المسعى، ولاقته في منتصف الطريق بحثا عن الأمن والاستقرار والمصالح المشتركة، ما يفرض الدخول في عملية بناء ثقة، وخطوات عملية تُفضي إلى تحقيق المراد، إذ يجب أن يلامس التحول التركي البُعد الأيديولوجي، الذي كان سببا في توتُّر العلاقات مع الدول العربية طوال العقد الماضي، وفي الوقت نفسه أن تؤثر هذه المراجعة التركية على الخيارات السياسية في شكل العلاقة مع الدول الغربية بشقيها الأوروبي والأمريكي.
هذه الخطوات العملية ستُشكل مقياسا حقيقيا، ليس لبناء المصالح المشتركة فقط، وإنما لتحديد الخيارات المستقبلية بين الدول، إذ لا يُعقل الاعتماد على البُعد الأيديولوجي، وتحديدا الإسلام السياسي، في بناء علاقات مستدامة ومستقرة مع العالم العربي، وهنا ينبغي الإشارة إلى أن الخطوات التكتيكية على أهميتها لا يمكن أن تُشكل خيارا نهائيا، ولعل الموقف التركي مما يجري في ليبيا، تحديدا على صعيد سحب المرتزقة منها، يشكل مقياسا مهما لفهم حقيقة التحولات الجارية في السياسة التركية، ودون ذلك فإن هذه الخطوات تدخل في إطار التكتيك، الذي يمكن تفسيره بعاملين أساسيين، الأول صعوبة الأوضاع الداخلية التركية، في ظل الانهيار المتسارع لليرة أمام الدولار، والثاني وصول السياسات السابقة لتركيا إلى طريق مسدود، فيما المطلوب لإحداث التحول الحقيقي ليس التموضع أو الاتكاء على البُعد الأيديولوجي السابق، بل على سياسات تتوافق مع العلاقات بين الدول على أساس القانون الدولي والمصالح المشتركة، بحثا عن الاستقرار والمستقبل في عالم يشهد تحولات متسارعة في مختلف مجالات الحياة.