اخترنا لكم

ألمانيا بعد عصر “ميركل”


بعد 16 عاماً غادرت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل دار المستشارية على وقع تكريم غير مسبوق مطلع الشهر الحالي.

وقد عُزفت الموسيقى العسكرية تكريماً للسيدة التي قامت بوظيفتها “بدقة ومثابرة”، كما وصفها الشعب الألماني، فقد استطاعت طوال فترة مستشاريتها العبور بالألمان العديد من الأزمات الداخلية والخارجية. 

واستطاعت أن تعزز من وضع ألمانيا كقاطرة للاقتصاد الأوروبي، وكقلب نابض مالياً للقارة العجوز، ولن ينسى الأوروبيون إنقاذ برلين لدول مثل اليونان والبرتغال وقت الغرق في الديون العالمية والمشكلات الاقتصادية.

مضت “ميركل” لتُفسح الطريق لوزير ماليتها ونائبها، أولاف شولتز، الذي عُرف بدقته وانضباطه، فلم يُرَ ولو لمرة واحدة فاقداً رصانته ورزانته رغم كل ما تعرض له من هزّات في مسيرته السياسية، ولذلك يسميه الألمان “أولاف مات”، أي “أولاف الآلي”، لدقته وقدرته على التحكم في نفسه، ولعل هذا ما يسَّر له الحصول على المقعد الألماني الأهم في تاريخ البلاد. 

“شولتز” استفاد أيضاً من منصبه في حكومة “ميركل” السابقة كوزير للمالية ونائبها لاكتساب خبرة لا بأس بها على الساحة الدبلوماسية الدولية، فهو معروف على المستوى الأوروبي على أنه مهندس حزمة المساعدات المالية الأوروبية في ظل أزمة كورونا.

ويبدو أن السياسة الخارجية للحكومة الائتلافية الجديدة لن تكون مختلفة عن حقبة “ميركل”، فالمؤشرات الأولية توضح أن حكومة “شولتز” تريد مواصلة البناء على إرث “ميركل” الخارجي، والأرجح سيكون عبر طريقة مقاربتها للشؤون الدوليّة، حيث أكد “شولتز” ذلك في كلمته أمام البرلمان الألماني: “السياسة الخارجية لألمانيا هي سياسة مبنية على الاستمرارية”. 

ويتولى “شولتز” مهمته في مرحلة صعبة تشعر فيها أوروبا بضرورة أخذ زمام المبادرة في معالجة الملفات الأوروبية المُلحّة بعيداً عن التعويل على الدور القيادي الأمريكي المشكوك به أوروبياً، وذلك بحسب تصريحات متكررة من الزعماء الأوروبيين، ومنهم “ماكرون” و”ميركل”، حيث تعوّل دول أوروبا اليوم بشكل كبير على “ألمانيا شولتز” لأخذ الدور القيادي، لما لألمانيا من ثقل اقتصادي وسياسي على الصعيدين الأوروبي والعالمي. 

وهناك أيضاً تحدٍ آخر أمام مستشار ألمانيا الجديد، وهي الأزمة الأوكرانية، وذلك بعد الحشود الروسية العسكرية على حدود أوكرانيا، التي تفاقمت أزمتها مؤخراً وأعادت التوتر بين موسكو وبرلين وأدت لطرد متبادل للدبلوماسيين، وتصريحات حادة بين البلدين، ولكن يبدو أن هذا التوتر لن يمتد فقط إلى المشاريع الاقتصادية المشتركة بين البلدين، والتي أهمها خط أنابيب الغاز “نورد ستريم 2″، والذي لا تزال تعارضه الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية.

وأما السياسة الداخلية، فتعتبر جائحة كورونا أكثر الأمور إلحاحاً بالنسبة للحكومة الألمانية الجديدة، فقد أعلن “شولتز” عن تشكيل فريق دائم لإدارة الأزمة ومكافحة الجائحة، وأيضاً المسارعة في تنفيذ إجراءات حماية البيئة ودعم الطاقة النظيفة، وذلك من خلال زيادة محطات الطاقة الشمسية وطاقة الرياح لتحقيق وعدها بأن تكون 80٪ من الطاقة الكهربائية في ألمانيا عام 2030 من مصادر الطاقة المتجددة. 

وتبدو سياسات حكومة أولاف شولتز فيما يخص قضية الهجرة والمهاجرين أقل حدّة، إذ تقدم تسهيلات غير مسبوقة في تاريخ ألمانيا للمهاجرين، ففي أول خطاب لـ”شولتز” أمام البرلمان أشار إلى أن ألمانيا دولة مرحِّبة بالمهاجرين، وستسهِّل مسألة قدوم واندماج الأجانب الراغبين في العمل بألمانيا.

الأكيد أنه على التحالف الجديد الحاكم في ألمانيا عدم التفريط في منجزات عصر “ميركل” الذهبي، والتركيز على استمرارية قيادة ألمانيا للكتلة الأوروبية وتعزيز ثقل برلين اقتصادياً وعالمياً، ويبقى الأهم قابليته للصمود عند التنفيذ الفعلي، الذي لا بد أن يصطدم بالتناقضات السياسية التي تهددها رؤية الأحزاب المشاركة فيه، فضلاً عن الضغوط الخارجية التي تفرضها مسؤولية ألمانيا كدولة قيادية على مستوى أوروبا وعلاقاتها مع حلف الناتو وتطورات الموقف مع روسيا، التي طالما حرصت “ميركل” على التهدئة معها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى