أمريكا والحاجة إلى “البديل الثالث”
هل أمريكا في أزمة مسارات سياسية قبل أشهر من انتخابات التجديد النصفي للكونجرس، وعامين من انتخابات رئاسية مفصلية في تاريخ الأمة الأمريكية؟
يمكن أن يكون ذلك كذلك قولا وفعلا، وعلى غير المصدق قراءة المقال المثير للكاتب “جيرارد باكر”، على صفحات “التايمز” البريطانية قبل بضعة أيام، عن أحوال الأمريكيين، والذين باتوا يرفضون بايدن وبالقدر نفسه لا يقبلون ترامب.
وضع “باكر” يده على موضع الجرح الحزبي الأمريكي، إذ ليس سرا أن غالبية المواطنين الأمريكيين يعيشون أزمة اختيار بين حزبين أحلاهما مُر، وكلاهما أعرج، وربما كان هذا هو السبب الذي جعلهم في عام 2016 يختارون المرشح ترامب، الذي كانت سيرته في ذلك الوقت خالية من أي عمل حزبي أو مشاركة سياسية حقيقية، فقط كان الاختيار من باب المكايدة السياسية للمرشحة الآتية من دهاليز الحزب الديمقراطي.
مقال “باكر” يشير إلى المأزق الذي ينتظره الأمريكيون في الانتخابات الرئاسية القادمة، والتي يتحسب لها الجميع الآن، وعنده أن “بايدن” أخفق في عيون الأمريكيين طولا وعرضا ومساحة إجمالية.
تُظهر استطلاعات الرأي مستوى متدنيا تاريخيا لتأييد بايدن، لا سيما بعد ارتفاع معدلات التضخم، وزيادة نسب الجريمة، وسوء الحكم الفوضوي عند الحدود الجنوبية.
وحال إضافة التعامل الكارثي لبايدن مع الملف الأفغاني، وردّات الفعل الكارثية التي أصابت الداخل الأمريكي بسبب قرارات إدارة بايدن تجاه الأزمة الروسية-الأوكرانية، فإن “رئاسة بايدن تحظى بمستوى قبول مماثل لوباء كوفيد”، والعُهدة هنا على الصحيفة البريطانية وكاتبها.
هل يمتلك ترامب والجمهوريون حلا سحريا لاستنقاذ الولايات المتحدة من خيبات الديمقراطيين؟
أغلب الظن أن ذلك ليس كذلك على الإطلاق، فترامب مثّل لملايين الأمريكيين “كبوة وعثرة” للديمقراطية الأمريكية نهار السادس من يناير/كانون أول 2021، وذلك حين حاولت الجموع اليمينية الغاضبة إجبار الكونجرس على تغيير نتيجة الانتخابات الرئاسية بالقوة.
تبدو حالة الاضطراب المجتمعي الأمريكي مثيرة للنظر، لا سيما على صعيد الشقاق القائم بين الحزبين الكبيرين، وتبادلهما الأدوار، فعلى سبيل المثال وقبل عام كان الديمقراطيون يتقدمون على الجمهوريين بست نقاط، فيما اليوم وعلى عتبات إعادة تشكيل الكونجرس يسبق الجمهوريون الديمقراطيين بأربع نقاط.. هل يعني ذلك ضمان هيمنة الجمهوريين على المدى الطويل حتى 2024، أي عودة ترامب مرة أخرى؟
المؤكد أنه يوما تلو الآخر تزداد نسبة المستقلين، الذين لن يصوتوا لبايدن أو ترامب، وهذا ما رصده “مارك بن”، الرئيس التنفيذي لشركة ستاغويل الإعلامية بشأن أحدث استطلاع شهري لـ”هارفارد هاريس”.
يقول “بن” إنه رغم الاستياء واسع النطاق لسجل الديمقراطيين، فإن الناخبين غير متحمسين بشأن أي من الحزبين، فالأمريكيون يبحثون عن التغيير في المرشحين السياسيين، وغالبية الناخبين لا يريدون أن يترشح جو بايدن أو دونالد ترامب عام 2024.
تبدو الأزمة الأمريكية داخل الأحزاب نفسها، وليس بين الحزبين الكبيرين فحسب، والدليل على ذلك ما حدث خلال العام الماضي من مناقشات داخل الحزب الجمهوري، والتي ذهبت في طريق البحث عن مرشح ذي توجه “يميني وسطي”، بهدف توفير مرشح جمهوري قادر على التزام الدستور وسيادة القانون، وهي أفكار يؤمن المحافظون من الجمهوريين بأنها “تعرضت لعسف وخسف شديدين من قبل ترامب”، وأنه حان الوقت لتصويب مسار الحزب الكبير.
على أن التساؤل الأكبر الذي نود التوقف أمامه بموضوعية: “هل أزمة الداخل الأمريكي أبعد من مجرد البحث عن رئيس؟ أهي أزمة أحزاب وبحث عن ملامح ومعالم قيادة جديدة، أم هي إشكالية هوية وتركيبة اجتماعية باتت قلقة ومضطربة؟ وماذا عن علاقة السياسات الخارجية الأمريكية بالأوضاع الداخلية للمواطنين الأمريكيين؟
تبدو الأسئلة أوسع وأعمق من أن يُحاط بها في قراءة واحدة سريعة، غير أن واقع الحال الأمريكية يخبرنا بأن أخطاء حدثت في عهود سابقة، كما الحال في زمن بوش الابن وباراك أوباما، أدت إلى فقدان الولايات المتحدة الأمريكية قدرتها على بلورة رؤية استراتيجية طويلة المدى.
في كتابه “الإمبراطورية والجمهورية في عالم متغير”، يقر رجل استخبارات الظل الأمريكي الشهير جورج فريدمان، بأن المغامرات العشوائية والأهداف التي لا يمكن تحقيقها جعلت أمريكا الداخل في أزمة.
تبدو إدارة بايدن ماضية قدما في هذا الاتجاه، فهي تشعل أوار الحرب في أوكرانيا، من خلال تجمع الأربعين الذي قاده وزير الدفاع الأمريكي، لويد أوستن، في قاعدة رامشتاين الألمانية مؤخرا، الأمر الذي سيدفع القيصر بوتين لرفع سلاحه قبل الأخير في وجه أوروبا، سلاح النفط والغاز، قبل أن يمضي إلى الورقة النووية المحتومة.
اضطراب أوروبا الاقتصادي، وكذا بقية العالم، حكما سيرتد اقتصاديا على المواطن الأمريكي بمزيد من الاختلال في توازنات الثروة، الأمر الذي يدفع إلى دروب الثورة، تلك التي تبدأ اليوم سياسيا في شكل رفض الحزبين الكبيرين، وهو ما نبّه إليه المفكر المحافظ روبرت كاغان من جهة، وعرّاب العولمة توماس فريدمان من جهة ثانية.
هل يمكن أن يمضي القلق الداخلي إلى ما هو أبعد؟
في الفصل الرابع والعشرين من الجزء الثاني لموسوعته العُمْدة “التاريخ الشعبي للولايات المتحدة”، يحذر المؤرخ الأمريكي الشهير “هوارد زن” من اختلالات توازن الثروة، الأمر الذي يقود من يسمّيهم “حراس النظام” إلى الانقلاب الداخلي، وهي قصة لنا معها عودة.
هل الخطر الأمريكي داخلي؟
أغلب الظن أن ذلك كذلك.