خلال حملته الانتخابية الرئاسية، ما انفَك المرشح وقتها، الرئيس تاليًا جوزيف بايدن، يشاغب الأمريكيين بفكرة عودة بلادهم لقيادة العالم.
الحديث هَيِّنٌ ويسير، لكنّ التنفيذ في غالب الأمر هو الصعب بمكان؛ ذلك أنّ واشنطن اليوم لم تَعُد مالئة الدنيا ولا شاغلة الناس كما كان الحال غداة نهاية الحرب العالميّة الثانية، يومَ أن خرجت منتصرةً على الألمان، وساندت أوروبا في حربها الطاحنة. ووقتها كان الأَلَق الأمريكيُّ واضحًا، والحلم الأمريكيّ بازغًا، والجميع مُتعلِّق بهذا النموذج الخَلّاق من أنظمة الحكم في العالم الحُرّ الجديد.
على أنّ اليوم، تعاني الولايات المتحدة الأمريكيّة من كَبَوات سياسيّة وفجوات إنسانيّة، فعلى الصعيد الاقتصاديّ أحدثتْ جائحةُ كوفيد-19 المُستجَدّ في هيكلها خسائرَ فادحة لم تعرفها منذ زمن الكساد العالميّ الكبير في أوائل ثلاثينيّات القرن الماضي. أمّا على صعيد النموذج السياسيّ، فقد باتت الشكوك تحوم من حول النظام الديمقراطيّ الأمريكيّ، لا سِيّما بعد الثغرات التي باتت تقترب من الفجوات في الجسد الحزبيّ الأمريكيّ، وقد جاءت الانتخابات الرئاسيّة الأخيرة لتُظهِرَ هذا العوار الكبير. أمّا إشكاليّة العنصريّة وتَفَشّيها فحَدِّثْ عنها ولا حرج، ورُبّما أحدث مشاهدها الشائهة، قَتْلُ ستّةٍ من الآسيويّين الأمريكيّين، عطفًا على حملات شعواء ضدّ كلّ مَن هو آسيويّ بحُجّة أنّه من قام بنقل فيروس كورونا إليهم.
على أنّه لا يمكن للمرء أن يحاجج في التفوق الأمريكيّ العلميّ والبحثيّ، فلا تزال الولايات المُتّحدة الأمريكيّة قاطرة العالم علميًّا، ولا يزال اللقاح الخاصّ بها في مقدّمة اللقاحات الفاعلة في مواجهة فيروس كورونا.
التساؤل هنا: هل يمكن أن تكون إشكاليّة هذه الجائحة هي الطاقة التي ينفذ منها نور أمريكا الحضاريّة والإنسانيّة على العالم من جديد، ولتعود أمريكا لتتجَلّى كمدينة فوق جبل مَرَّة أخرى؟
الجواب يعود بنا إلى حال العالم مع فيروس كورونا لا سِيّما على عتبات الموجة الثالثة التي يتحَدّث عن انتشارها الكثيرون حول العالم.
قبل أيّامٍ، نشرتْ صحيفة النيويورك تايمز ذائعةُ الصيت مقالاً بعنوان “الظلم الصارخ”، أشارت فيه إلى أحوال حملة اللقاح التي تجري في عدة بلدان غربيّة، وكيف أنّها تمضي بخُطًى ثابتة. لكن ومع ذلك فإنّ هناك حقيقةً أساسيّة ينبغي تداركها في هذا الإطار، وهي أنّ فيروس كورونا لن يُقهَر في أيّ مكان، إن لم يُقهَر في كلّ مكان، وبخاصة في ظلّ ظهور نُسَخ مُتحَوِّرة في أنحاء كثيرة من العالم، والأسوأ هو توقُّعات العلماء بظهور نسخ مُتحوّرة أخرى، ما يجعل فكرة التحَدّي للقاحات المتداولة حاليًّا قائمة وقادمة.
كيف لصحيفة أمريكيّة هي الأشهر تاريخيًّا أن تصف التطَوُّر السريع للقاحات والتي أُنتِجتْ بسرعة قياسيّة وبتمويل ضخم في أمريكا وأوروبا بأنّه ظلم صارخ؟
في التفاصيل نكتشف أنّ سُكّان البلدان الغنيّة والمتوسّطة الدَّخْل قد تحَصَّلوا على حوالي 90% من حوالي 400 مليون لقاح تَمَّ تسليمُها حتّى الآن، ومعنى هذا أنّه سيتعَيَّن على العديد من الدول لا سِيَّما الفقيرة والنامية أن تنتظر لسنوات طويلة قبل أن تتمَكَّن من الحصول على ما يكفي شعوبَها. وحالَ تفشّي الفيروس في دورات جديدة أو من خلال تحَوُّرات قادمة، فإنّه في غالب الأمر ستتعَرَّض تلك الشعوب للإبادة، الأمر الذي يعود بنا إلى دائرة التفكير التآمري للتاريخ، مع الأخذ في عين الاعتبار أنّه إن لم يكن التاريخ بجملته مؤامرة، فإنّ المؤامرة حتمًا موجودة في باطن التاريخ.
ما الحل إذاً للقضاء على فيروس كوفيد-19 قضاءً شِبْهَ مُبرم في بقيّة أرجاء العالم، فقرائه مع أغنيائه دفعةً واحدةً؟
الشاهد أنّ الحلّ بسيط ويسير، ويتمَثَّل في قيام الحكومات الغربيّة بإجبار شركات الأدوية على نشر وصفات اللقاحات ومشاركة خبرتها وتكثيف التصنيع، وبالتالي توافر مليارات العبوات من اللقاحات من شمال الأرض إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها.
لكنّ التساؤل: هل يمكن أن تقبل لوبيات الأدوية حول العالم بهذا الطرح، وهي التي تَتَّخذ من مثل تلك الجوائح طريقًا لمراكمة رؤوس الأموال، في ظل رأسماليّة متوَحِّشة ونيوليبراليّة باتت لا تُقِيم وزنًا للبشر؟
لم تكن “نيويورك تايمز” فقط مَنْ تَنَبَّه لإشكاليّة العالم في المواجهة؛ فقد تناولت مجلة “فورين بوليسي”، الصادرة عن معهد العلاقات الخارجيّة في نيويورك، القِصّة عينَها من خلال قراءة مُعمَّقة وردتْ تحت عنوان “الجميع في نفس القارب”.
خلاصة القراءة محورها أنّ العالم لن ينجو طالما هناك بؤر جديدة مُرشَّحة لانتشار الفيروس، وبخاصّة في ظلّ عدم المقدرة على إغلاق العالم إغلاقًا كاملاً مَرَّة وإلى ما شاء الله؛ فقد خلقتْ العولمةُ نوعًا من التواصل والحركة غير المسبوقة في القرون السابقة.
هل باتت كورونا مُهدِّدًا للأمن العالميّ؟
يمكن أن يكون ذلك كذلك على صعيدَيْن: الأول يخُصّ انتشار الفيروس، والمثال على ذلك أنّ بريطانيا كانت أول بلد يُطَعِّم مواطنيه ضِدّ كورونا، ومع ذلك ظهرت فيها سلالاتٌ جديدة جاءت إليها حتمًا من جنوب أفريقيا.
الثاني هو أنّ رغبة الانتقام من قِبَل الشعوب المظلومة، بحسب تعبير “نيويورك تايمز”، سوف تُوَلِّد تيارًا إرهابيًّا مُحمَّلاً بالنقمة ضِدّ الآخرين، وهذه قِصّة أخرى أشدُّ هولاً.
ما الذي يمكن أن تصنعه أمريكا لاستنقاذ العالم؟
قد تكون هذه هي أوقات أمريكا اليوتوبيّة، عبر خُطّة متعدّدة الأطراف تشمل المجتمع البشريّ بأسره لمساعدة مبادرة كوفاكس، بهدف تطعيم العالم.
يمكن لواشنطن أن تقوم بتنشيط قواتها المسلحة ودعوة حلفائها وبخاصّة في مجموعة السبع وحِلْف شمال الأطلسيّ لتدشين مساعدةٍ كبيرة تُسرِّع من تدَفُّق إمدادات اللقاح وتُعزِّز أنظمة توصليها.
في هذا السياق، لدى واشنطن أذرع متعدِّدة تُمكِّنُها من ذلك، بدءًا من دبلوماسِيّتها الواسعة المترامية الأطراف، ومرورًا بالوكالة الدوليّة للتنمية، ومراكز السيطرة على الأوبئة والوقاية منها، عطفًا على الوكالات المدنيّة الأخرى لمساعدة البلدان الفقيرة والتي أنهكها الوباء.
لدى واشنطن فرصة هائلة عبر شركاتها الدوائيّة لإنتاج الملايين من اللقاحات، وتوزيعها على العالم بالمَجّان، والمرد هنا مزدوج؛ إذ سيعود ويُعزِّز المصالح الاقتصاديّة ويفتح أبوابًا كانت مُغلَقة للتجارة الأمريكيّة حول العالم، ولاستعادة المنتجات الأمريكيّة مصداقيّتَها.
والثاني تحسين صورة أمريكا في عيون العالم، والتي تأثَّرتْ كثيرًا جِدًّا، بل توارت وراء الأفق منذ بداية الألفيّة الثالثة والحروب التي شَنَّتْها حول العالم تحت شعار مكافحة الإرهاب.
الولايات المُتَّحدة الأمريكيّة مَدعُوّة لا لكي تعود إلى مكانتها السابقة كحلمٍ ديمقراطيّ جميل فحسب، بل لأنْ تقود العالم في محنته هذه، وساعتَها يمكن الإعلان عن مولد أمريكا خَلَّاقة بالقيم الإنسانيّة السامية وفي مُقدِّمتها الأخُوَّة الإنسانيّة مرّةً جديدة.