آل الرئيس الأميركي جو بايدن على نفسه، إلا وأن يجعل يوم الرابع و العشرين من أبريل عام 2021 حدثا مهما للمجتمع الدولي الإنساني، حين تقر الولايات المتحدة وتعلن رسميا للعالم الحر المتمدين أن ما حدث للأرمن في ذات اليوم الرابع والعشرين عام 1915 شَكّل جريمة إبادة جماعية مكتملة الأركان وفق اتفاقية الأمم المتحدة لمنع والعقاب علي جريمة الإبادة الجماعية التي صدرت في التاسع من ديسمبر عام 1948.
في ذلك اليوم المُظلم في تاريخ الأرمن والبشرية، لفظت المجازر العثمانية ِحممها، حين أصدر الظالم العثماني فرمانه الأغبر بإبادة الأرمن غدرا وإبعادهم غيلة وتعذيبهم جبرا وتهجيرهم خارج وطنهم قسرا.
وأطلق الحاكم العثماني ولم يكن حَكما عادلا، رصاصة البداية للخطة الممنهجة والمعدة من قبل لإبادة الأرمن الجماعية، فاستغرق حصد وتصفية المفكرين الأرمن، وأعلامهم من أهل الثقافة والرأي والإبداع ساعات بطيئة في عمر الزمن وكئيبة في نفوس البشر في مشهد كئيب ليوم عصيب في الخامس عشر من أبريل عام 1915.
وبالرغم من أن القتل عدته اتفاقية منع الإبادة المشار إليها أحد أنماط الإبادة الجماعية، بيد أن الوحش الإبادي التركي الذي دشن قرن الإبادة الجماعية القرن الماضي، آثر أن يَسد علي أحفاده أتراك اليوم المنكرين للجريمة أية ثغرة يفلتون منها، فارتكب كافة الأفعال الإبادية المختلفة التي نصت عليها المادة الثانية من الإتفاقية المشار إليها، فصارت الدماء التي سالت من الضحايا الأرمن جراء الأفعال الإبادية التي ارتكبها الأتراك السلاطين مدادا أحمرا كتبت به الإتفاقية المشار إليها، كما أشار لهذه الدماء الذكية الفقيه “ليمكن” في أطروحاته التي مهدت للإتفاقية التي تعد الميثاق الدولي الأول في مجال حماية حقوق الإنسان، بل وحفظ النوع البشري ذاته.
لقد تميزت الإبادة الجماعية للأرمن عن سائر جرائم الإبادة الجماعية التي ارتكبت في القرن العشرين والمعروف بقرن الإبادة الجماعية، لأنها تضمنت العديد من أنماط الإبادة المختلفة، والتي تم النص عليها في اتفاقية الجمعية العامة للأمم المتحدة لمنع الإبادة فلم تقتصر الأنماط الإبادية العثمانية بحق الأرمن على قتل الأرمن، وإنما إلحاق الأذى البدنى والنفسى الشديد بالشعب الأرميني، وإخضاع الأرمن لظروف معيشية يستحيل أن تعيش فيها جماعة الأرمن عيشة طبيعية.
إن الرسالة المباشرة للرئيس الأميركي فحواها، أنه مهما طالت السنون، ستظل ذاكرة التاريخ الإنساني ملطخة بدماء المليون ونصف الأرمني من الأطفال والنساء والعجائز والرجال الشرفاء الذين قضوا بسنابك القتل وقيظ الصيف وزمهرير الشتاء في صحاري الشام.
فهذه الدماء سطرت تاريخ أرمينيا في تركيا ذاتها، فشريعة الغاب لن تدوم طويلا، ولن يستمر ضمير الإنسانية في سبات وغفوة وخدر، كما الرئيس الأميركي يحذر الطغاة ممن يسترخصون النفس البشرية من مغبة إصرارهم في غيهم واستمرارهم في طغيانهم.
إن إصرار ذلك الشعب الأرمني الجبار على إحياء قضيته في ضمير العالم المتحضر والتصدي لمحاولات تركيا التهوين من الجرائم المرتكبة تارة، والإنكار تارة أخري للقضية الأرمنية برمتها جعلت حكومات وبرلمانات الدول فضلا عن منظمات وجمعيات وهيئات المجتمع المدني العالمية والوطنية تقر بأن ما ارتكبته تركيا عام 1915 وما بعدها شكل جريمة إبادة جماعية في القانون الدولي، وهل بعد الإقرار الرسمي بالإبادة الأرمينية من حليفي تركيا: ألمانيا والنمسا رسميا في مايو عام 2016 أي إنكار؟
إن الخطوة التاريخية الإنسانية الأميركية تؤكد أن الحقيقة ضرورية لاحترام كرامة الضحايا ومصلحة المجتمع الدولي بأسره فيضحي ذلك الإقرار صمام أمان لمنع تكرار هذه الجرائم مستقبلا فالإنكار لا يعني إلا الاستمرار، وإذا كان من المحتمل أن يؤدي إقرار الحكومة التركية بالجرائم التي ارتكبت بحق الأرمن إلى تخفيف معانة الضحايا المغبونين في قبورهم، فمن المؤكد أن من شأن ذلك أن يحقق الشفاء الروحي لأسر ومحبي هؤلاء الضحايا الباقين على قيد الحياة.
ختاما، إن الإقرار بالذنب إعلاء للعدالة، ولا يعد تصفية لحساب ولكن تهدئة للنفوس المكلومة من أسر الضحايا، وإنهاء لثقافة الإفلات من العقاب، وحفظ الجنس البشري ممن يذبحون وينكرون، ويمسح العار عن جبين الحكومات التركية التي لا تعرف لحمرة الخجل سبيلا.