الأحياء الفلسطنيون يغرقون في رائحة الموت
للحرب إرث لا ينتهي بنهايتها، فكل من شهدها يحمل عبئا ثقيلا لبقية حياته، يراوده في أحلامه، ويصنع كثيرا من شخصيته وتصرفاته.
فالشاب الفلسطيني هيثم أبوعمار، الذي يعاني مرارة النزوح في مدرسة تابعة لوكالة غوث اللاجئين “الأونروا” في قطاع غزة، يراوده حتى في أحلامه جمع أشلاء مقطعة لأحباء أو جيران، بعد أن عايش هذه التجربة المأساوية على الطبيعة.
ومع بزوغ فجر يوم الخميس، قام هيثم أبوعمار بتمشيط أنقاض مدرسة الأونروا التي أصبحت مأوى له ولآلاف النازحين الآخرين في مخيم النصيرات وسط غزة، قبل أن تستهدفها غارة إسرائيلية مميتة، أسفرت عن مقتل أكثر من أربعين شخصا.
ولساعات، ساعد هيثم الناس على تجميع أطراف الأشخاص الذين أحبهم، جراء القصف الذي طال المدرسة.
ومنذ اندلاع الحرب الإسرائيلية في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، تم استخدام المدارس لإيواء سكان غزة الذين أجبروا على ترك منازلهم بسبب القتال.
“وضع كارثي”
وقال أبوعمار، عامل بناء يبلغ من العمر 27 عاما، لصحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية، إن “الشيء الأكثر إيلاما الذي شهدته على الإطلاق هو التقاط تلك القطع من اللحم بيدي”، مضيفا “لم أعتقد أبدا أنني سأضطر إلى القيام بشيء كهذا”.
وبعد ساعات مما وصف بـ”المجزرة” تم لف الجثث والأطراف المشوهة التي تم انتشالها من تحت الأنقاض في بطانيات، وتكديسها في شاحنات ونقلها إلى مستشفى شهداء الأقصى في مدينة دير البلح، وهو آخر مرفق طبي رئيسي لا يزال يعمل في وسط قطاع غزة.
ووصف الجيش الإسرائيلي الغارة الجوية بأنها مخططة بعناية. وقال المتحدث باسمه دانيال هاغاري للصحفيين إن قوات بلاده تعقبت مسلحين في المدرسة.
لكن روايات المسعفين المحليين والأجانب، وزيارة صحيفة “نيويورك تايمز” للمستشفى بعد ظهر الخميس، كشفت أن المدنيين ماتوا أيضا.
وخارج مشرحة المستشفى تجمعت حشود للبكاء والصلاة على الموتى، فيما كانت ممرات المجمع الطبي مزدحمة بالأشخاص الذين يطلبون المساعدة، أو على الأقل القليل من الراحة، وفق نيويورك تايمز.
من بين هؤلاء، صرخت فتاة صغيرة ساقها ملطخة بالدماء: “ماما.. ماما”، بينما كانت أمها المنتحبة تتبعها عبر ممرات المستشفى.
40 قتيلا
وقالت وزارة الصحة في غزة إن 40 شخصا على الأقل، منهم 14 طفلا و9 نساء، قتلوا في الهجوم على المدرسة التي لجأ إليها الآلاف.
وتحول مستشفى شهداء الأقصى رمزا ليس فقط للخسائر الفادحة في الأرواح في وسط غزة، بل أيضا للشعور المتزايد باليأس بين سكان غزة الذين يكافحون من أجل العثور على مكان لا يزال آمنا هناك.
وفي الأسابيع القليلة الماضية، امتلأت المنطقة الوسطى بالنازحين الفارين من هجوم إسرائيلي على مدينة رفح جنوبي القطاع.
وقبل بدء هذا الهجوم كانت رفح هي الملجأ الرئيسي للمدنيين، إذ كانت تضم في وقت ما أكثر من نصف سكان قطاع غزة.
ويوم الأربعاء، أعلنت إسرائيل أنها بدأت عملية جديدة في وسط غزة، وهو المكان نفسه الذي انتهى فيه الأمر بالعديد من سكان غزة الذين فروا من رفح.
وتقول إسرائيل إن حماس تخفي قواتها في أماكن مدنية مثل المدارس أو المستشفيات، وهو اتهام تنفيه الحركة.
وقال العاملون في مجال الصحة إنه خلال اليومين الماضيين من الحملة العسكرية الجديدة استقبلت مستشفى شهداء الأقصى 140 قتيلا ومئات الجرحى.
“أين أخطأت الإنسانية؟”
كارين هوستر، الممرضة في منظمة أطباء بلا حدود الدولية التي تعمل في المستشفى، وصفت المكان بقولها “إنها فوضى عارمة، لأن لدينا إصابات جماعية تلو الأخرى، ولكن الإمدادات الطبية الموجودة قليلة لعلاجهم”.
وتابعت هوستر أنه وسط حالة الارتباك يقوم المسعفون أحيانا بإحضار المصابين بجروح قاتلة إلى غرف العمليات، مما يهدر وقتا حيويا لأولئك الذين لا تزال لديهم فرصة للبقاء على قيد الحياة.
وذكرت أن غالبية الأشخاص الذين عالجتهم في الأيام القليلة الماضية كانوا من النساء والأطفال.
ومن نفس المستشفى، كانت المشاهد بين الموتى في المشرحة فوضوية تقريبا مثل تلك التي بين الأحياء، إذ كانت الجثث ملقاة في كل مكان، فيما تجمهر أقاربها يبكون ويصرخون عليها، ورائحة الدماء تفوح من حولهم.
وكانت الحشود خارج المشرحة تنحسر وتتدفق بينما وُضعت الجثث في بطانيات، وأخرى لم تجد لها الأكفان، وتم رفعها إلى شاحنات صغيرة لنقلها إلى الدفن، والصلاة عليها.
مشاهد عجزت الممرضة في منظمة أطباء بلا حدود وصفها، ليبقى سؤالها معلقا “أين أخطأت الإنسانية؟”.