اخترنا لكم

الإسلام الإنسانوي.. موت الإسلاموية

د. وائل صالح


“الإسلام الإنسانوي” هو نمط التدين الوحيد القادر على استيعاب كافة “الإسلامات” “أي أنماط التدين باسم الإسلام” غير الإسلاموية، بل يمكن القول إنه “إسلام الإسلامات” من هذه الزاوية. قوة الإسلام الإنسانوي تكمن في كونه يقوم على فكرة محورية معينة و هي فكرة التسامح والتعايش بين مختلف الإسلامات غير الإسلاموية. مشكلة الإسلاموية “الإسلام السياسي” تكمن في كونها نافية لبقية “الإسلامات”، وقد تنجح الإسلاموية في هذه اللحظة أو تلك من لحظات التاريخ، ولكن ما أن تنتهي اللحظة حتى يصبح “نفي الآخر” كعب أخيل الذي يُهزم منه هذا النوع من التدين. أما الإسلام الإنسانوي فهو، نظرياً على الأقل، نمط تدين حقيقته المطلقة هي أنه لا يملك الحقيقة المطلقة، أي أنه يبقى نصاً مفتوحاً، على عكس النصوص المغلقة في الإسلاموية.  

تلك النصوص المغلقة أدت لتكون ما أسميه “متلازمة الإسلاموية”، أي مجموعة من العلامات والأعراض والظواهر المرتبطة مع بعضها تلازم وتنتج عن أي تواجد لهم في الفضاء العام وتتنافى مع القيم الأساسية للمواطنة و العيش المشترك: 1. احتكارهم الحقيقة والدين حيث تقدم الإسلاموية تفسيرا واحدا للدّين وللتاريخ الإسلامي على أنه من الحقائق الثابتة، بل و تسعى لفرض هذا التفسير – دون غيره – بالقوة على المجتمع، 2. عزلة منتسبيهم الشعورية عن المجتمع، 3. الاستعلاء بنمط تدينهم على المجتمع، 4. سيادة شعار “أينما تكون مصلحة الجماعة فثم وجه الله” في ممارستهم السياسية، 5. تحول المجتمع لحالة الصراع الدائم، ليصبح مجتمعا منقسما على نفسه وصولا للحروب الأهلية، 6. غياب مفهوم المواطنة، 7. وسيادة فكرة ولاء الفرد للجماعة و امتدادتها العابرة لحدود الدولة الوطنية، 8. سيادة مبدأ التكفير المبرر للعنف في نهجها السياسي للوصول للحكم، مستندة إلى الاعتقاد بكونها الفرقة الناجية الحارسة للدين، 9. حصر التفكير على القضايا “العقائدية” الخلافية القديمة، مما يجعل المجتمع رهينة لفقه العصور القديمة و بمعزل تام عن حركة العلم والفلسفة والتقدم البشري. 10. الخلط بين الدين والسياسية فيدنس الديني بإنزاله لمستوى السياسي ويرفع من شأن السياسي بتقديسه فينتج خلطة أيديولوجية يختلط فيها الرأي والتفسير بالنص المقدس، فيتداخلان ويكونان تدينًا جديدًا ينفجر إن عاجلا أم آجلا في وجه كل من لن ينضوي تحت لوائه.

في المقابل، يعني الإسلام الإنسانوي بالتنظير و من داخل الإسلام وباسمه لثقافة مغايرة للمسلمين المعاصرين، وذلك بإعادة الحياة للجزء القابل للتعددية والتعايش و التسامح من ثقافتهم وتاريخهم، ولكن بدون أيديولوجيا. ولا يعني ذلك أن الإسلام الإنسانوي غير مؤدلج أو أنه ناف للأيديولوجيا، فهو بذاته أيديولوجيا في النهاية، ولكن أيديولوجيا مستوعبة لكافة الأيديولوجيات غير الإسلاموية. بوضوح أكبر، يمكن القول إن الإسلام الإنسانوي هو أيديولوجيا واعية بذاتها الأيديولوجية، وهنا تكمن قوته. فهو أيديولوجيا تحرير الأيديولوجيا من الأيديولوجيا، أي أنه إسلام تحرير الإسلام من الإسلاموية.

لذلك سينتصر الإسلام الإنسانوي في صراعه مع الإسلاموية ، مما أوحى لنا بمصطلح “موت الإسلاموية” في كتابي الذي ألفته بالفرنسية بالتعاون مع الدكتور “باتريس برودر” تحت عنوان « L’islam politique à l’ère du post-printemps arabe. Sommes-nous entrés dans l’ère du nécro-islamisme ? »، بمعنى ” الإسلام السياسي في زمن ما بعد الربيع العربي هل حان موت الإسلاموية؟” والذي شرحنا فيه كيف فقدت الإسلاموية بعد الربيع العربي حواضنها “في نطاق الدولة الوطنية والمنطقة العربية و العالم”، و التي كانت تدعم الإخوان والإسلاميين بشكل كبير قبل عام 2011 ، حيث تلخصت ردة فعل الإخوان على سبيل المثال على ذلك الفقد في صورتين: الصورة الأولى هي العودة التامة إلى خطابهم المؤسس بما يتضمنه من تكفير الآخر والتنظير والتبشير بالخلافة والشريعة والشرعية الدينية للحكم السياسي واحتكار التحدث باسم الدين…إلخ. وهذا ما أسميه “rétro-islamisme”والذي يجسد مرحلة تورط الإخوان بشكل غير مسبوق في التطرف والعنف “حالة مصر” أما الصورة الثانية فتمثلت في التخلي بشكل كلي عن كل المبادئ المؤسسة للإسلاموية وهو ما يعد تفريغًا للإسلاموية عن كل ما كان يميزها عن التيارات الأخرى العلمانية أو الإنسانوية …الخ وهذا ما أسميته “néo-islamisme” .

وكلا الطريقين سيؤديان إلى موت الإسلاموية nécro-islamisme لأنها في صورتها المبدئية “أي نمط تدينها المؤسس” لم تعد مقبولة وفقدت سحرها بالكلية وفي حالة التخلي عن كل مبادئها المؤسسة تكون قد اندثرت، أي أنها نفت نفسها بنفسها. فالمصير المحتوم هو “موت الإسلاموية” أي الفكر السياسي لحركات الإسلام السياسي المتطرفة، ففي مرحلة بعد ما سمي الربيع العربي، فقدت الإسلاموية الحاضنة المجتمعية التي كانت تتمتع بها، حيث تغيرت الذهنية العربية الإسلامية “غير الإسلاموية”.   

و لا يعني زوال حركات الإسلاموية الاختفاء الفوري أو الاندثار التام لها ولفكرها، و لكن يعني أن التأثير الذي كان لديها قبل الربيع العربي لن يعود أبداً كما كان. هو نوع من الموت الإكلينيكي يجعل حركات الإسلاموية لا تغادر أبداً نطاق الهامش وكلما استعادت الدولة الوطنية قوتها ومكانتها ودورها وكلما ترسخ الإسلام الإنسانوي في المجتمعات كلما اضمحلت الإسلاموية.

والأمثلة كثيرة على خطوات مهمة بذلت في طريق ترسيخ قيم ذلك الإسلام غير الإسلاموي مثل: 1. وثيقة مكة المكرمة و التي أقر فيها 1200 شخصية إسلامية من 139 دولة يمثلون 27 مكوناً إسلامياً من مختلف المذاهب والطوائف؛ دستوراً تاريخياً لإرساء قيم التعايش بين أتباع الأديان والثقافات والأعراق والمذاهب في البلدان الإسلامية من جهة، وتحقيق السلم والوئام بين مكونات المجتمع الإنساني كافة . 2 وثائق الأزهر “وثيقة التجديد في الفكر و العلوم الإسلامية، وثيقة الأخوة الإنسانية، إعلان الأزهر العالمي للسلام، إعلان الأزهر للمواطنة والعيش المشترك، وثيقة الأزهر لنبذ العنف، وثيقة الأزهر للحريات” التي على اختلاف موضوعاتها وسياقاتها تمثل نقدا لكل أسس الإسلاموية و انحياز لقيم الحوار والتعايش. 3. مجلس حكماء المسلمين الذي يهدف إلى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة وإطفاء الحرائق التي تجتاح جسدها وتهدد القيم الإنسانية ومبادئ الإسلام السمحة وتشيع شرور الطائفية والعنف التي تعصف بالعالم الإسلامي منذ عقود.

في النهاية إن الصراع الحقيقي بين العرب من جانب و تركيا وإيران وقطر وجماعة الإخوان من جانب آخر هو في حقيقة الأمر صراع بين الإسلام غير الإسلاموي وبين الإسلاموية بشقيها السني والشيعي. و لكي ننعتق تماما منهما يجب أن نخطو خطوات أخرى في طريق ترسيخ الإسلام غير الإسلاموي في النفوس و المجتمعات العربية. أهم تلك الخطوات هي تعليم الفكر النقدي القادر الوحيد على مقاومة كل أشكال الاستلاب والاغتراب و الاعتقاد بلا انتقاد، والقادر الوحيد على تنمية التحيز إلى قيم التسامح والتفاهم والسلم والعيش المشترك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى