“الإسلام دين ودولة”.. شعار أزمة لم تنته بعد
ضمن سرديات وشعارات ما تسمى “الحركات الإسلامية”، بدا هذا الشعار “الإسلام دين ودولة”، لوناً من ألوان الخداع العقلي والبصري، الذي حجب كثيراً ممّا يحققه التفكير الحر الهادئ، الذي يستخلص الأفكار الصحيحة، ويحاول تحرير الثوابت والمتغيرات في ديننا وحياتنا.
كانت حقائق الدين وثوابته تخضع -أحياناً- للحذف والإضافة، بحسب الأهواء والمصالح، وتوسلت حركات ونظم بكلّ شيء يؤبّد سيطرتها على العقل المسلم ومسيرة المجتمعات، إلى حدّ توظيف الدين إسباغاً لمشروعية زائفة، على أوضاع ونظم لم يتسامح معها الإسلام، ولم ينزل للتعايش معها؛ بل لتغييرها والسموّ بواقع الناس نحو الأفضل.
تحت لافتة الاحتفاء بالدين، وتقدير فعله في واقع الناس، وتوظيفاً لقوة المعتقد الديني في سوق الناس في الاتجاه الذي يرضاه هذا الطرف أو ذاك، وقع المسلمون، وليس الحركات الإسلامية فحسب، في مزلق تاريخي شديد الوعورة، كان نتاج الخطأ في فهم تاريخ هذا الأمة، ومقاصد هذا الدين.
كان هذا المزلق هو ما لخّصه هذا الشعار، أنّ “الإسلام دين ودولة”، وأنّه لا يصحّ إيمان الناس ما لم يسعوا إلى إقامة دولة لها ملامح محددة، تنصر الدين، وتسعى به في الدنيا، متوسلة في ذلك بالسنان واللسان، وأنّه -هذا الدين- لا يقوم إلّا عبر دولة تنهض بأعباء نشر العقيدة، تتسلّح بكلّ القوة لتردّ صولة الأعداء، وأنّ الإسلام قدّم كلّ ما يصلح تلك الدولة، وأنّه جسد النموذج الأرقى لذلك.
اعتمدت تلك الدعاوى على ترويج قراءة تاريخية رغائبية، هي لون من ألوان التفكير بالتمني واعتماد الأسطورة والتنكر للواقع، بكلّ ما يطرحه من تعقيدات النفس البشرية والعمران البشري وقوانينه، التي تبدو شديدة التعقيد، تقول كلمتها الفصل في كلّ مرحلة من مراحل التاريخ البشري، التي تعدّ حياتنا فصلاً من فصوله المؤسفة، فلسنا وحدنا من عاش على هذه الأرض، وجسد إرادة الله في عمارتها والاستخلاف فيها؛ بل ربما كنّا بالحال أكثر من المقال، الأشد جهلاً لمراد الله في خلقه بما اقترفته أيدي أجيال مختلفة منا.
إنّ قراءة رصينة وعقلانية لتراثنا وتاريخنا، تثبت صحة ما حاول بعض مفكرينا أن يلمسوه بشجاعة بأنّ “الإسلام دين وليس دولة”؛ فكلّ محاولة لتأسيس دولة تتحدث باسم الله وتترجم قيم الدين، اعتدت على تلك القيم وشوّهتها، كما لم تصلح الدولة، ولم تقدم لها أبداً، إلّا فيما ندر، النموذج الأرقى الذي يصحّ أن ينسب إلى بهاء الوحي وجلال الدين.
عندما نسأل الحركات الإسلامية عن ملامح الدولة التي نادى بها الإسلام، ودعا إليها، يتباينون في ضرب الأمثلة، فمنهم من يستشهد بالخلافة التي انتقلت من الحكم العضوض إلى غلبة السيف والعدد، سواء عبر عرق تغلب، أو أسرة تمكّنت، بعد أن سطرت ألواناً من العنف، التي لم يغب عن تبريرها فقه حاضر طوال الوقت، يبرر ويشرعن، أو قد يحاول بعضهم الخروج من تلك المتاهة بالحديث عن دولة المدينة، متغزلاً بدستور المدينة وشكل الدولة، مقيماً عند هذا النموذج مستمسكاً به كأساس لصكّ شعار “الإسلام دين ودولة”، وهذا ما يدعونا إلى طرح بعض الأسئلة.
هل كانت دولة الرسول، صلى الله عليه وسلم، تلك الدولة التي، في تعبير المفكر جمال البنا، الذي هو شقيق حسن البنا، أحد الذين صكّوا هذا الشعار، ودافعوا عنه بالحال والمقال دولة عادية، يمكن تكرارها “دولة المدينة رزقت ملابسات في التأسيس لا تتأتى لغيرها، وانسحبت آثارها عليها، بحيث كانت سياقاً تاريخياً جمع بين الرسول وضرورة الحكم، وانتهت بموت الرسول لأنّه لا رسول بعده”.
يشير البنّا هنا، ونتفق معه تماماً، إلى أنّ “رأس هذه الدولة الفريدة كان رسولاً يستلهم الوحي الذي يوجّهه ويؤدبه ويعاتبه، بقدر ما كان يوجب على المؤمنين طاعته، وهذا بالطبع ما لا يتأتّى لأيّ دولة أخرى”.
بعضهم يطرح أدوراً يريد فيها أن يكون حاكماً، له حقوق النبي نفسها على المؤمنين، غير أنّه فقط لا يوحى إليه؛ لذا يريد أن يكون كلامه هو وحياً.
البنّا هنا، وغيره من العقلانيين من مفكرينا، يشيرون إلى أصل الداء، في الخلط بين مقام النبوة الذي يبدو مقاماً غير قابل للاستنساخ أو التكرار، ومقام رئيس الدولة أو الحاكم، الذي من صفاته نقص البشر والتعلم عبر التجربة والخطأ، الخلط بين ما هو سماوي يستهدى به على مدار الساعة، بهدى السماء وتوجيهها، وما هو بشري تصنعه الرغائب والأهواء والمصالح، وموازين القوى الاجتماعية على الأرض.
بدت كلّ محاولة للجمع بين مقام النبوة ومقام الخلافة، أو الحكم، محاولة يائسة، لم تجر على الأمة سوى أعظم الويلات، وعلى مذبح الحكم سقط البدريّون، وحفّاظ الوحي، من مات رسول الله وهو عنهم راضٍ.
ولأنّ هذا الخلط كان عميقاً، وتعاون على تكريسه الخلط في المفاهيم، فضلاً عن خلط شياطين الإنس والجن، فلم ينجُ منه سوى القليلين ممن أنفوا أن يكونوا وقوداً لصراعات “صفّين والحرّة” وغيرها من الفتن، كلّها فتن كبرى كانت نتاج القفز على تلك الحقيقة؛ أنّ الدين ثابت والحكم متغير، يخضع لتطور قدرات البشر، ومستوى وعيهم بذاتهم، وبالكون الذي يعيشون فيه.
لذلك لم تسعف الإسلاميين التجربة، ولا التاريخ، سوى بحقيقة واحدة تقول: إنّ كلّ محاولة لإلزام الحكم بتصورهم عن الدين، ضرّت بالدين ولم تصلح الحكم.
كثيراً ما أفكر؛ ماذا لو تمايز فريقان منذ البداية، فريق زهد في الحكم، وامتثل لكلّ التراث الديني الذي ذمّ الإمارة وذمّ من يطلبها، وفريق امتلك أدوات الحكم، فحكم وهو يرى أمامه فريقاً زاهداً في الحكم، كلّ همّه التمكين للقيم في نفوس الناس، حكاماً ومحكومين، أعتقد أنّ هذا كان سيدعو الحكم إلى لون من ألوان الاطمئنان، الذي كان سيقود حتماً إلى تطوره باتجاه رعاية مقاصد الدين سلوكاً، كما كان سيحفظ للدين، بالمقابل، سموّه وتجرّده عبر هذا الفريق، الذي سيبقى يحرس القيم دون إراقة نقطة دم واحد.
ماذا جنى علينا هذا التصور البائس، الذي ترجمه هذا الشعار، سوى مذابح وأحقاد وانقسامات، كان يراها عبدالله ابن عباس بفراسة المؤمن، يوم خاطب الإمام الحسين بصدق قائلاً: “إنّ الله لن يجمع لكم النبوة والخلافة”.
لكنّ إرادة الله نافذة، ولا حول ولا قوة إلا بالله، لكن من يفكّر ويتدبر.