“الإندوباسيفيك” والتنافس الاستراتيجي بين أمريكا والصين
التنافس الأساسي في النظام العالمي الراهن يكمن بين الولايات المتحدة والصين، وهو تنافس يستخدم فيه الطرفان مختلف الأدوات الاقتصادية والسياسية وأساليب الردع العسكري.
تسعى واشنطن في هذا التنافس إلى الحفاظ على موقعها المتميز في النظام العالمي، بينما تسعى الصين إلى تحويل فائض قوتها الاقتصادية إلى نفوذ سياسي واستراتيجي على المستوييْن الإقليمي والدولي.
في هذا السياق، ذاع تعبير منطقة “الإندوباسيفيك” باعتبارها قلب هذا التنافس الاستراتيجي، والتي من المتوقع ازدياد أهميتها في السنوات القادمة، في ضوء ازدياد مساحة الخلافات بين البلدين، فهي تُعتبر مركز الثقل العالمي للنمو الاقتصادي والتوترات السياسية في آنٍ.
يُشير هذا التعبير -الإندوباسيفيك- إلى الدول المشاطئة للمحيطَيْن الهادي والهندي، ويعتبرهما وحدة جيو-اقتصادية واستراتيجية متكاملة، وتشمل هذه المنطقة قرابة 42 دولة من جميع قارات العالم، باستثناء أوروبا.
تطوَّر هذا التعبير على أيدي أكاديميين وسياسيين آسيويين، وذاع بعد استخدام رئيس الوزراء الياباني، شينزو آبي، له عام 2007 وحديثه عن “آسيا الموسعة”.
ثم انتقل التعبير إلى قاموس الدبلوماسية الأمريكية على يد وزيرة الخارجية، هيلاري كلينتون، واستخدمه الرئيس السابق “ترامب” عند الإشارة إلى المصالح الأمريكية في هذه المنطقة.
ومنذ البداية، كان الهدف من هذا المفهوم هو محاصرة الصين واحتواءها، ورغم أن المُروِّجين له أكدوا أنه ليس موجَّهاً ضد أي دولة بعينها، فقد حرصوا جميعاً على استبعاد الصين منه.
يتمثَّل الهدف الأمريكي في وقف تمدد النفوذ الصيني في المنطقة، والذي اتخذ، وفقاً للمصادر الأمريكية، أشكالا عدة، منها إقامة جزر صناعية في بحر الصين الجنوبي، وإنشاء قواعد عسكرية عليها بهدف توسيع خريطة الصين الجيوبوليتيكية وتوسيع المناطق التابعة لها.. ومنها الخلافات مع فيتنام والفلبين وماليزيا وإندونيسيا بشأن تبعية بعض الجزر في بحر الصين، وفرض الصين عقوبات اقتصادية على أستراليا.
هذا في الوقت الذي تتنامى فيه القدرات العسكرية الصينية في كل المجالات، خصوصاً في استخدام تكنولوجيات الذكاء الاصطناعي.
من جانبها، تؤكد الصين الطابع السلمي لسياستها الخارجية، وحرصها على علاقات حُسن الجوار مع الدول الأخرى، وأن الخلافات القائمة مع بعض الدول الآسيوية حول بعض الجزر هي خلافات قانونية وتاريخية لها نظائرها في مناطق العالم الأخرى.
وتبنَّت الصين مبادرة “الحزام والطريق” في عام 2013 لتوفير الغطاء السياسي والاقتصادي لحركتها الدولية، وتوفير سبل نمو تجارتها من خلال شبكات المواني والمطارات والسكك الحديدية والطرق والممرات البرية والإنترنت، وطرحت مبادرات للتعاون بين الدول في مجال الأمن البحري والخدمات البحرية المشترَكة.
في هذا السياق، يمثّل بحر الصين الجنوبي خط المواجهة الرئيسي بين البلدين، فتتَّهم واشنطن الصين بأنها “تسعى للسيطرة عليه ووضع قيود على حرية الملاحة فيه”، وقد أعلن “ترامب” عام 2017 عن استراتيجية الإندوباسيفيك.. ووفقاً لها، فإنها منطقة تجارة وملاحة “حرة ومفتوحة”.
وجاء توقيع اتفاقية الأوكوس الأمنية بين أمريكا وبريطانيا وأستراليا في سبتمبر 2021، واجتماع مجموعة “الكواد”، التي تضم أمريكا والهند واليابان وأستراليا، بواشنطن في الشهر التالي، تعبيراً عن استمرار واشنطن في سياسة احتواء الصين، ونقل المواجهة بين البلدين إلى مناطق الجوار الصيني، واستخدام استراتيجية “الردع المتكامل”.
وتجلَّى ذلك في زيارات نائبة الرئيس ووزير الدفاع ونائبة وزير الخارجية لعدد من الدول الآسيوية هذا العام، ولم تتردد واشنطن في بيع غواصات تُدار بالطاقة النووية لأستراليا، رغم ما أثاره هذا القرار من رفض بكين واتهامها واشنطن بشن “حرب باردة” ضدها.
تأتي تلك التحركات تطبيقاً لرؤية إدارة “بايدن” لخصوصية التحدي الصيني، حسب وثيقة “التوجه الاستراتيجي المؤقت”، التي أُعلنت في مارس الماضي، ونصّت على أن “التحدي الذي تمثله الصين مختلف، لأنها الدولة الوحيدة التي تمتلك القوة الاقتصادية والدبلوماسية والعسكرية والتكنولوجية لتحدي النظام الدولي المستقر والمفتوح بشكلٍ جدّي”.. ومن ثَم اعتبرتها “التحدي الأكبر للنظام الدولي”.
تدرك واشنطن الصعوبات، التي تحول دون تحقيق هدفها تجاه الصين من خلال المواجهة، وأنه لا يوجد توافُق دولي بين حلفائها بشأنها.. لذلك، فإنها لا تستبعد خيار الحوار معها، وظهر ذلك في الإعلان عن توافق أمريكي صيني بشأن التغيرات المناخية في ختام مؤتمر غلاسكو.
وفي لقاء القمة الافتراضية بين الرئيسين في الشهر الماضي، أكد “بايدن” أنه لا ينبغي أن يتحول التنافس بين الدولتين إلى صراع، وأشار الرئيس الصيني إلى ضرورة استمرار التواصل والتعاون بينهما.
الأقرب إلى الواقع أن العلاقات بين واشنطن وبكين سوف تستمر في التأرجح بين المواجهة والردع من ناحية، والتواصل والدبلوماسية من ناحية أخرى.