الاحتجاج في زمن حماس: بين الصوت المعارض وقبضة القمع

تشهد المنصات الإعلامية التابعة للإخوان المسلمين والمؤيدة لـ»حماس» (خارج فلسطين) حالة استنفار غير عادية، خاصة بعد خروج التظاهرات الاحتجاجية في قطاع غزة المطالبة بإيقاف الحرب وإنهاء حكم «حماس» للقطاع.. والسبب معروف طبعاً، فاحتجاجات شعبية كهذه لا تعني فقط تحميل الحركة مسؤولية تدهور الأوضاع ومآلات الحرب، بل هي إدانة لنهجها وسياساتها، ونزع هالة القداسة عنها. وعلى مستوى إستراتيجي يمكن اعتبارها محاكمة تاريخية.. وبدلاً من الدفاع عن الحركة بالحجة والبرهان والنقاش العقلاني، يواجه أنصارها منتقدي الحركة بالشتائم والألفاظ النابية، ومهاجمة السلطة و»فتح» واتهامها بالخيانة وأنها هي التي تحرك التظاهرات ضد «المقاومة».
-
إسرائيل توسع هجماتها في غزة وتحاول تحفيز السكان ضد حماس
-
غزة تحت النار والغضب.. هل تقترب نهاية حكم حماس؟
أما داخل القطاع فالحال مختلف، إذ لا تكتفي الحركة وأنصارها بالسب والشتائم، بل يعمد مسلحو الحركة لمعاقبة وقمع كل من ينتقدها، إما بالتهديد، أو بالتحقيق والاستجواب وإلزام المتهم بكتابة تعهد بالكف عن مهاجمة «المقاومة»، أو بالسجن والتعذيب، أو بضربه في الشارع والتنكيل به، أو بالتشهير به واتهامه بالعمالة.. وهذه الأساليب متبعة منذ سيطرة «حماس» المنفردة على القطاع، وهناك مئات الحالات الموثقة.
وفي العام 2019، خرجت مبادرة «بدنا نعيش» التي طالبت بتوفير فرص عمل وحياة كريمة، وانتقدت فرض الضرائب دون وجه حق، والتضييق على الحريات، خاصة بعد أن تدهورت الأوضاع الاقتصادية والمعيشية، ما دفع بخيرة شبان غزة لمغادرتها بحثاً عن «حياة».. ومع أن مطالبها اجتماعية، إلا أن الحركة قمعتها بشدة واتهمت نشطاءها بالعمالة.
وخلال فترة الحرب، ظهرت عشرات ومئات الأصوات من داخل غزة في منشورات تركز على ضرورة وقف الحرب، وأنه لا طائل من ورائها، ولن نجني منها سوى المزيد من الخراب والخسائر.. أو تنتقد قناة «الجزيرة»، وتفضح دعايتها وانفصالها عن الواقع، وعدم نقلها الحقيقة، ومنحها إسرائيل الفرص لتبرير عدوانها.. ومنشورات تنتقد وتفضح من يسرقون المعونات، وتطالب بتوزيعها بعدالة، ومحاسبة مقاولي الحرب والسماسرة ومن يتاجرون باسم الشعب تحت مسميات التكايا والجمعيات الخيرية، ومن يرفعون الأسعار، ومن يستغلون معاناة الناس بلا رحمة ولا ضمير.. وكان أنصار الحركة يعتبرون هذه الأصوات شاذة ومحبطة ويسمّون أصحابها المرجفين، وأعداء المقاومة!
اليوم، وبعد نحو سنة ونصف السنة على حرب الإبادة، ومآلاتها الكارثية على كافة الصعد، وبعد خروج التظاهرات الاحتجاجية ضد حكم «حماس»، صعّدت الحركة من إجراءاتها القمعية.. وزادت من وتيرة استهداف المعارضين لها عبر وسائل قمعية عديدة، أبرزها جلب من تتهم بالسرقة أو التعديات (وأغلبهم فقراء ومراهقون وحتى أطفال) والقيام بضربهم، وقد بثت الحركة وأنصارها عشرات مقاطع الفيديو التي تصور حفلات القمع والتنكيل، تحت مسمى «مكافحة اللصوص»، وهي في الحقيقة طريقة ترويع وإرهاب لعامة الناس، وبث رسائل ضمنية ومباشرة مفادها أن الحركة موجودة وقوية وتضرب بيد من حديد، ومستعدة لقمع كل من يعارضها ومن يتجرأ على انتقادها.
-
حرب غزة.. تفاقم ظاهرة سرقة الأسلحة من مخازن الجيش الإسرائيلي
-
5 قضايا رئيسية في مفاوضات هدنة غزة والمفتاح بيد نتنياهو
ولم تكتفِ بحفلات التنكيل المصورة، بل شنت حملات إعدام لعدد من المواطنين اتهمتهم بالعمالة لإسرائيل، ومع أنها إعدامات بلا محاكمة عادلة وغير مستوفية للشروط القانونية، إلا أن هذا خارج نطاق المقال، وهو من اختصاص المنظمات الحقوقية.. ما يهمنا هنا أنه بهذه الإعدامات ترهب الشعب بسيف «تهمة العمالة»، فكل من ينتقدها سيكون عرضة لهذه التهمة، وحتى لو كانت مجرد منشور على «فيسبوك»، سيحتاج المتهم سنوات لتبرئة نفسه.
بعد أن انتقل الخلاف في الرأي من الكلام والنقاش إلى مستوى الفعل والانتقام والقتل.. ما يحصل الآن مخيف ومرعب وخطير، وينذر بما هو أسوأ.. والخطورة تكمن في تفشي الفوضى والانفلات الأمني، والتي ستتفاقم أكثر.. وقد تفتح حلقة جديدة من مسلسل الصراع الأهلي، وصراع كهذا هو الأخطر والأشد والأعنف، ولن يسلم منه أحد، من اعتدى ومن اعتدي عليه، ستتسع دوائر الانتقام، وحلقات العنف.
-
مسيرات العودة الكبرى..مقتل فلسطيني بقصف إسرائيلي شمالي غزة
-
غزة..غارات لجيش الاحتلال على مواقع متفرقة في القطاع
وكل محاولة لإسكات الصوت الحر لن تكون أكثر من مجرد إرهاب، ولكنه إرهاب مَن لم يعد لديهم ما يخسرونه وما يخشونه. لذا هي أفعال حمقاء وجبانة ستجر الجميع إلى أتون الفتنة والاقتتال الداخلي.
هذا لن يخلق سوى الكراهية والحقد والمزيد من التعصب والتشظي.. ويبدو أن بعض المتشددين من «حماس» قد بدؤوا مبكراً التحول إلى هذا الاتجاه، فإذا كان هذا حالنا الآن ونحن جميعاً تحت القصف الإسرائيلي، فكيف سيكون حالنا في «اليوم التالي» للحرب؟
هذه المخاطر بدأت تظهر بوضوح منذ الأشهر الأولى للعدوان، لكن الإعلام ظل يتكتّم عليها؛ حتى لا يخدش الصورة «المثالية» التي صدّرها عن مجتمع غزة، وعن المقاومة وحاضنتها المفترضة.. ما يجري من سرقات وتعديات واستغلال وسمسرة وذل وبهدلة وامتهان لكرامة الناس.
أخطر ما في الموضوع أن الجيل النشط والمؤثر في غزة «جيل الشباب ومن وُلدوا بعد التسعينيات».. هؤلاء لم يعيشوا حياة طبيعية، ولم يحظوا بفرصة للعيش. ما أن أنهوا طفولتهم حتى وجدوا أنفسهم في وسط انتفاضة شعبية «مسلحة»، ثم عاشوا الحصار بكل ما جرّه من مظالم وضنك. ثم شهدوا ست حروب، بكل ويلاتها وأهوالها وفواجعها.. حياة كلها خوف وقصف ودمار وقتلى.. وفي أوقات «الاستراحة» بين الحروب معاناة وقهر على كافة المستويات.. لم يغادروا القطاع، لم يرَوا العالم، لم يختبروا شيئاً اسمه حياة طبيعية.. وهذا الجيل يواجه اليوم مستقبلاً مجهولاً وغامضاً. لا يبدو منه سوى الوجه المرعب والمظلم.
أوقفوا هذه الحرب العبثية قبل أن نفقد ما تبقى من إنسانيتنا.