البرهان بين الإسلاميين والدولة: تحالف الضرورة الذي يتحول إلى عبء سياسي
يعيش السودان في مرحلة دقيقة تتشابك فيها الخيوط السياسية والعسكرية، حيث أصبح المشهد الداخلي أكثر تعقيدًا من أي وقت مضى. فالفريق عبد الفتاح البرهان، الذي صعد إلى الواجهة عقب سقوط نظام البشير، يجد نفسه اليوم أمام تحدٍ مزدوج: حرب طاحنة ضد قوات الدعم السريع من جهة، وتصدع في تحالفه مع التيار الإسلامي من جهة أخرى.
هذا التصدع لا يبدو عابرًا، بل يتجه نحو تحول استراتيجي في ميزان القوى داخل المؤسسة العسكرية والسياسية، بما يهدد وحدة القيادة ويعمّق عزلة البرهان داخليًا وخارجيًا.
جذور العلاقة: من التكتيك إلى الشك
منذ بداية الحرب، حاول البرهان توظيف الإسلاميين كجزء من معادلة التعبئة ضد قوات الدعم السريع. فبعد أن كان يرفع شعار “إبعاد فلول النظام السابق”، عاد ليعتمد على رموز الحركة الإسلامية في إدارة الحرب وتمويلها وتنظيمها الإعلامي.
غير أن هذه العلاقة كانت منذ البداية علاقة تكتيكية أكثر منها تحالفًا استراتيجيًا.
الإسلاميون، من جانبهم، رأوا في الحرب فرصة لاستعادة دورهم المفقود داخل الدولة، بعد أن أطاحت ثورة ديسمبر 2019 بنظامهم الممتد لثلاثة عقود. لكنهم سرعان ما اكتشفوا أن البرهان لا يمنحهم سوى مساحة محدودة للحركة، وأنه يستخدمهم كأداة ظرفية لتثبيت سلطته العسكرية.
وهكذا، بدأت ملامح الاستياء الإسلامي تتشكل بوضوح كلما اتخذ البرهان قرارًا يعاكس مصالحهم أو يقلص من نفوذهم داخل المؤسسات.
إجراءات البرهان… رسائل موجهة للداخل والخارج
خلال الأشهر الأخيرة، اتخذ البرهان سلسلة قرارات بدت في ظاهرها “إصلاحية”، لكنها في مضمونها حملت إشارات سياسية ضد الحركة الإسلامية.
فقد أبعد عددًا من القيادات العسكرية ذات الخلفية الإسلامية من مواقع حساسة، وأعاد ترتيب بعض الأجهزة الأمنية بطريقة قلصت نفوذهم التاريخي داخلها.
كما أصدر تعليمات صارمة تقضي بتجميد بعض الجمعيات والواجهات الاقتصادية التي تُتهم بأنها تموّل نشاطات إسلامية سياسية، في محاولة لتقديم نفسه أمام المجتمع الدولي كـ”قائد وطني غير مؤدلج”.
هذه الخطوات قرأها الإسلاميون كـ”طعنة غدر” من حليفهم العسكري، معتبرين أن البرهان يحاول كسب ثقة الخارج على حساب تحالفه معهم.
وفي الوقت نفسه، فشلت هذه السياسة في استعادة الدعم الغربي أو الإقليمي، إذ لا تزال العواصم الكبرى تنظر إلى البرهان كجزء من المشكلة، لا بوصفه قائدًا لحل محتمل.
الانقسام داخل الإسلاميين: بين المواجهة والانتظار
ما يجري اليوم داخل صفوف الحركة الإسلامية هو انقسام في الرؤية والتكتيك.
فبينما يدعو بعض قياداتها إلى الصدام السياسي المباشر مع البرهان وفضّ الشراكة، يفضّل آخرون التريث، انتظارًا لتطورات الميدان التي قد تضعف موقعه أكثر وتجبره على تقديم تنازلات.
مصادر مقربة من الحركة تؤكد أن الخلاف بلغ حدًّا غير مسبوق، إذ ظهرت أصوات من داخلها تتهم بعض القيادات “بالتواطؤ مع البرهان” مقابل منافع شخصية أو وعود مستقبلية.
هذا الانقسام يُضعف الحركة من الداخل ويجعلها أقل قدرة على التفاوض أو فرض شروطها، وهو ما يدركه البرهان جيدًا ويستغله لمصلحته في تثبيت موقعه القيادي داخل المؤسسة العسكرية.
لكن الأخطر من ذلك، هو أن فقدان الثقة بين الجانبين أصبح ظاهرة معلنة، لا يمكن تغطيتها بالخطاب الديني أو الشعارات الوطنية التي كانت تجمعهما.
الفاشر.. نقطة التحول
شكلت سقوط مدينة الفاشر علامة فارقة في تدهور العلاقة بين البرهان والحركة الإسلامية.
فالكثير من الإسلاميين حمّلوا القيادة العامة مسؤولية الانهيار، معتبرين أن سوء التنسيق بين القوات، وغياب القرار الحاسم، ووجود انقسامات داخل القيادة العسكرية، كانت كلها نتيجة تهميش الكوادر الإسلامية الميدانية التي كانت تقود المعارك بكفاءة.
إحدى الشخصيات الإسلامية البارزة وصفت ما حدث بأنه “خيانة داخلية أكثر من هزيمة عسكرية”، مشيرة إلى أن “البرهان فقد السيطرة على خطوط الاتصال بين الجيش والحلفاء الإسلاميين”.
ومنذ ذلك الحين، ازدادت حالة التذمر داخل صفوف الإسلاميين العسكريين والمدنيين، الذين باتوا يرون أن البرهان “يستخدمهم عند الحاجة ويتخلى عنهم عند أول أزمة”.
البرهان في مرمى الانتقادات
لم يكن الغضب الإسلامي هو التحدي الوحيد أمام البرهان، بل ترافق مع تآكل الثقة الإقليمية والدولية في قيادته.
ففي الوقت الذي يحاول فيه تبرير قراراته بأنها “محاولة لضبط التوازن داخل الدولة”، يراه المراقبون متقلبًا في مواقفه، يبدّل تحالفاته بسرعة، ويبعث رسائل متناقضة للعواصم الإقليمية.
في القاهرة وأبوظبي، يتحدث المسؤولون بصراحة عن “صعوبة الرهان على البرهان في ظل غموض موقفه من الإسلاميين”.
وفي المقابل، لا تخفي أنقرة والدوحة تحفظهما على محاولاته المستمرة لإقصاء حلفائه الإسلاميين رغم أنهم دعموا الجيش في مواجهة الدعم السريع في مراحل مبكرة من الحرب.
هذه المواقف المتضاربة جعلت البرهان يقف على أرض دبلوماسية مهتزة، لا يجد فيها حليفًا ثابتًا ولا خصمًا واضحًا، بينما تتسع دائرة السخط داخليًا من سياساته.
تآكل التحالف… وظهور البدائل
في ظل هذا الواقع، بدأت بعض القيادات الإسلامية تفكر في التموضع خارج عباءة الجيش، والبحث عن بدائل سياسية أو عسكرية تعيد لهم تأثيرهم المفقود.
تتحدث تقارير محلية عن لقاءات سرية بين شخصيات إسلامية بارزة وعدد من قادة الحركات المسلحة في دارفور، في محاولة لاستكشاف أرضية مشتركة لتنسيق المواقف ضد البرهان مستقبلاً.
وإن صحت هذه التسريبات، فهي تعني أن السودان يتجه نحو مرحلة جديدة من التحالفات المتغيرة، حيث لم يعد الجيش مركز الجاذبية الوحيد، ولم تعد الحركة الإسلامية اللاعب الأكثر انضباطًا.
في المقابل، يحاول البرهان بناء تحالف وطني أوسع يضم شخصيات مدنية ومستقلين وقيادات قبلية، لتقديم نفسه كقائد “لكل السودانيين”، وليس لحزب أو تيار بعينه.
لكن هذه الخطوة تواجه مقاومة شديدة من الإسلاميين الذين يرون فيها محاولة “لإقصائهم تحت غطاء وطني”.
الانعكاسات على الجيش
انعكست هذه الأزمة السياسية على الوضع الداخلي للجيش نفسه.
فقد ظهرت بوادر انقسام غير معلن بين الضباط ذوي الخلفية الإسلامية وبين من يوصفون بـ”الضباط الوطنيين”.
في بعض الجبهات، حدثت حالات رفض لتنفيذ أوامر صدرت من قيادات يعتقد أنها قريبة من البرهان، ما يشير إلى تآكل الانضباط الداخلي.
وبحسب مصادر عسكرية، فإن بعض الضباط الذين أُبعدوا من مواقعهم بسبب “الاشتباه بولائهم للحركة الإسلامية” بدأوا في التواصل مع قيادات سابقة في الخارج، في ما يشبه التحضير لمعادلة موازية داخل المؤسسة العسكرية.
هذا التطور ينذر، بحسب مراقبين، بأن السودان قد يدخل في مرحلة تفكك مؤسساتي صامت، يصعب السيطرة عليه إذا استمر غياب الثقة بين القيادة والإسلاميين.
قراءة في المشهد المستقبلي
من الواضح أن البرهان يسير في طريق ضيق محفوف بالتناقضات.
فهو لا يستطيع التخلي عن الإسلاميين بشكل كامل خوفًا من رد فعلهم داخل الجيش، ولا يستطيع الاستمرار في التحالف معهم دون أن يخسر دعم القوى الإقليمية والدولية التي ترفض عودتهم إلى السلطة.
وفي المقابل، تبدو الحركة الإسلامية في مأزق استراتيجي مماثل: فهي لا تملك القدرة على المواجهة المفتوحة، ولا تستطيع البقاء في موقع التابع.
ومع استمرار الحرب واستنزاف الدولة، تزداد مؤشرات الانقسام الداخلي، سواء داخل المؤسسة العسكرية أو داخل التيار الإسلامي نفسه.
نهاية مرحلة الغموض
يمكن القول إن العلاقة بين البرهان والحركة الإسلامية دخلت مرحلة اللاعودة السياسية.
ما كان يُدار في الخفاء بدأ يظهر في العلن على شكل تسريبات، ومواقف متبادلة، وحملات إعلامية تشير إلى عمق الهوة بين الطرفين.
البرهان، الذي أراد أن يوظف الإسلاميين كوسيلة للبقاء في الحكم، يجد نفسه اليوم أمام خصوم داخل المعسكر الذي كان يعتبره سندًا له.
أما الإسلاميون، الذين راهنوا على البرهان لاستعادة نفوذهم، فيشعرون أنهم خُدعوا بتحالف مؤقت تحول إلى عبء سياسي يهدد وجودهم.
وبين الطرفين، يقف السودان المنهك، يواجه حربًا لم تنتهِ، واقتصادًا يترنح، ومؤسسات تفقد تماسكها تدريجيًا.
إنها مرحلة إعادة فرز حقيقية للتحالفات والقوى، قد تفتح الباب أمام واقع جديد لا مكان فيه للغموض أو المواربة، حيث ستُحسم المعركة بين من يريد بناء دولة وطنية مستقلة، ومن يسعى إلى استعادة دولة الحزب والتنظيم.
