حصري

البرهان والإسلاميون: صراع الثقة المفقودة والتحالف المؤقت


منذ تولي الفريق عبد الفتاح البرهان القيادة في السودان، كانت العلاقة بينه وبين الحركة الإسلامية محط اهتمام داخلي وخارجي. فمن جهة، يُعلن البرهان في خطاباته الرسمية إبعاد الإسلاميين عن الحياة السياسية والعسكرية، ومن جهة أخرى، يبدو واضحًا أن الجيش والسلطة الميدانية لا يمكنهما العمل دون الاعتماد على كوادر ومقاتلين محسوبين على الحركة الإسلامية. هذا التناقض لم يمرّ دون أن يثير شكوك الإسلاميين أنفسهم، الذين بدأوا يشعرون بأن البرهان يستخدمهم كورقة مؤقتة لتحقيق مصالحه الشخصية والسياسية، وهو ما أدى إلى تراجع الثقة بهم، وتصاعد الغضب والانقسامات داخل صفوفهم.

التناقض بين الخطاب والميدان

البرهان تبنّى منذ البداية خطابًا عامًا مفاده أن الجيش السوداني “حيادي” ولا يمثل أي تيار سياسي أو أيديولوجي، وأنه يهدف إلى حماية الدولة من الانقسامات. في المقابل، كشفت الأحداث العملية أن الجيش يعتمد بشكل كبير على قيادات ومقاتلين ينتمون إلى الحركة الإسلامية أو يتقاربون معها سياسيًا وعقائديًا. هذا التناقض بين ما يُعلن وما يُمارس على الأرض زاد من الغموض حول نوايا البرهان، وأدى إلى شعور متزايد بالريبة داخل الحركة الإسلامية، إذ بدا لهم أن دورهم يقتصر على دعم ميداني للحرب دون أي نفوذ حقيقي في القرار السياسي أو العسكري.

المحللون السياسيون يشيرون إلى أن البرهان استخدم هذا التوازن الهش لصالحه، إذ يمكنه الاعتماد على الإسلاميين وقت الحاجة، وفي الوقت نفسه تقليص حضورهم تدريجيًا عند عدم حاجته لهم. هذا النهج أظهر عدم الاستقرار في التحالفات، وقلل من مصداقية البرهان أمام شركائه الإقليميين والدوليين، الذين باتوا يرون في تحالفاته المتقلبة علامة ضعف واستغلال تكتيكي أكثر من كونها شراكة استراتيجية.

الإجراءات التي أضعفت نفوذ الحركة الإسلامية

خلال الأشهر الماضية، اتخذ البرهان سلسلة من القرارات التي أثارت غضب الإسلاميين، أهمها:

  1. إبعاد الضباط المؤثرين: شملت إعادة هيكلة القيادة العسكرية، ونقل ضباط معروفين بولائهم للحركة الإسلامية إلى مواقع بعيدة عن خطوط المواجهة. هذه الخطوة كانت بمثابة رسالة ضمنية بأن نفوذ الحركة داخل الجيش لم يعد مرحبًا به كما كان سابقًا.

  2. تجميد الملفات الاقتصادية: البرهان قام بتجميد أو السيطرة على ملفات اقتصادية كانت تديرها شخصيات مقربة من الحركة الإسلامية، وهو ما فُسّر داخليًا على أنه محاولة لتقليص قدرتهم على التأثير المالي والسياسي، وتقويض مواردهم الموازية.

  3. إعادة هيكلة القوة المشتركة: شملت تعديل تشكيلات الوحدات الميدانية وتوزيع المهام بما يحد من قدرة الحركة الإسلامية على التحكم بالعمليات، مما أدى إلى شعور واسع بالخيانة والانقسام داخل صفوفهم.

سقوط الفاشر: نقطة التحول

كان سقوط مدينة الفاشر أحد أبرز الأحداث التي كشفت هشاشة العلاقة بين البرهان والحركة الإسلامية. فقد أدى ضعف التنسيق العسكري، وغياب الثقة المتبادلة بين الطرفين، إلى انهيار الدفاعات بسرعة غير متوقعة. بعض الضباط الإسلاميين رفضوا تنفيذ أوامر مباشرة من القيادة، معتبرين أنها تتجاوز التسلسل القيادي المتفق عليه، بينما قام البعض الآخر بمحاولة حماية مصالحهم الميدانية بعيدًا عن التوجيهات الرسمية.

مصادر مقربة من قيادة الحركة الإسلامية أشارت إلى أن سقوط الفاشر تسبب في حالة صدمة وغضب داخلي، حيث شعر عدد من القيادات بأن البرهان خان التفاهمات الضمنية معهم، وبدأ باستخدامهم كأداة مؤقتة. هذا الحدث ساهم في تزايد الانقسامات داخل الحركة، بين جناح يرى ضرورة استمرار التحالف باعتباره “خيارًا استراتيجيًا مؤقتًا”، وجناح آخر يطالب بقطع العلاقة مع البرهان، أو على الأقل إعادة ترتيب التحالف بطريقة تضمن لهم استقلالية أكبر.

الغضب والانقسامات الداخلية

أحد أبرز تداعيات هذه السياسات وسقوط الفاشر هو حالة الغضب والشك المتزايدة داخل صفوف الحركة الإسلامية. الاجتماعات السرية التي عقدت بين قياداتها كشفت عن خلافات حادة حول مستقبل العلاقة مع البرهان. بعض القيادات طالبوا بإنشاء كيان ميداني مستقل يضمن استمرار نفوذ الحركة على الأرض، بعيدًا عن قرارات القيادة العسكرية المركزية، فيما رأى آخرون أن استمرار التعاون مع البرهان ضروري لتجنب الانقسامات الأكثر خطورة.

هذه الانقسامات لم تقتصر على المستوى القيادي، بل وصلت إلى القواعد الميدانية، حيث بدأ عدد من المقاتلين الإسلاميين يشعرون بأنهم مجرد أدوات تُستخدم في العمليات العسكرية دون أي اعتبار لمصالحهم أو استراتيجيتهم السياسية، وهو ما عمّق الفجوة بين القيادات والمقاتلين، وزاد من حدة الأزمة الداخلية.

الانشقاقات داخل الحركات المسلحة

لم تقتصر الأزمة على الإسلاميين فقط، بل امتدت إلى الحركات المسلحة التي كانت تعمل ضمن القوة المشتركة التابعة للجيش. بعض الفصائل أعلنت انسحابها الجزئي أو إعادة ترتيب ولاءاتها بعيدًا عن القيادة المركزية، ما أدى إلى تفكك القوة المشتركة وتدهور التنسيق العسكري. هذه الانقسامات أسهمت بشكل مباشر في ضعف الأداء العسكري، كما أظهرت هشاشة التحالف بين البرهان والإسلاميين، وزادت من القلق لدى القوى الإقليمية والدولية بشأن استقرار المشهد السياسي والعسكري في السودان.

فقدان الدعم الإقليمي والدولي

تزامنت هذه الانقسامات مع تراجع الثقة الخارجية بالبرهان. الدول التي كانت تراهن عليه كضامن للاستقرار في السودان بدأت تشكك في قدرته على إدارة التحالفات الداخلية وتحقيق التوازن بين القوى المختلفة. التحالفات المتقلبة، والتناقض بين الخطاب الرسمي والممارسات على الأرض، أضعف موقفه في المفاوضات الإقليمية والدولية، وجعل الكثيرين يشككون في قدرته على تحقيق أي استقرار طويل الأمد في البلاد.

أثر فقدان الثقة على الوضع السياسي

فقدان الثقة بين البرهان والإسلاميين انعكس على الأداء السياسي والاقتصادي للسلطة. فمع تراجع نفوذ الحركة داخل المؤسسات، بدأ الفراغ في بعض المناصب الإدارية والعسكرية يؤدي إلى بطء في اتخاذ القرارات، ما أضعف فعالية الحكومة العسكرية في إدارة الملفات الأساسية. إلى جانب ذلك، ظهرت حالات ارتباك داخل مؤسسات الدولة نتيجة غياب التنسيق بين القيادات العسكرية والسياسية، مما زاد من حالة عدم الاستقرار السياسي.

السيناريوهات المستقبلية

تحليل الوضع الحالي يشير إلى أن التحالف بين البرهان والحركة الإسلامية هش للغاية، ومعرض للانهيار في أي لحظة. الإسلاميون اليوم أمام خيار صعب: إما قبول استمرار التحالف المؤقت رغم فقدان النفوذ، أو البحث عن بدائل أخرى لضمان مصالحهم الميدانية والسياسية. من جهة أخرى، البرهان يجد نفسه أمام تحدٍ مزدوج: ضرورة الحفاظ على تحالفه مع الإسلاميين لمواجهة خصومه، وفي الوقت نفسه الحاجة لتقليص نفوذهم لتجنب فقدان السيطرة على الجيش والمؤسسات.

إن العلاقة بين البرهان والحركة الإسلامية اليوم تقوم على المصالح المؤقتة أكثر من الثقة الحقيقية. الإجراءات التي اتخذها البرهان لتقليص نفوذ الإسلاميين، سقوط الفاشر، والانقسامات داخل القوة المشتركة، كلها عوامل جعلت التحالف هشًا ومعرضًا للتصدع. على المدى القصير، قد يستمر التعاون العسكري، لكن على المدى الطويل، يبدو أن فقدان الثقة سيؤدي إلى إعادة ترتيب التحالفات السياسية والعسكرية في السودان، ما يفتح الباب أمام مرحلة جديدة من إعادة الاصطفاف الداخلي والخارجي.

زر الذهاب إلى الأعلى