تشير تطورات العلاقات الروسية الأمريكية في الوقت الراهن إلى أن الجانبين دخلا مرحلة جديدة من المواجهات السياسية والاقتصادية.
وربما أيضا مواجهات استراتيجية في المدى المتوسط، نتيجة السلوك الأمريكي المتشدد منذ وصول الإدارة الأمريكية الحالية للحكم في الولايات المتحدة، وتبنيها خيارا تصعيديا تجاه الرئيس بوتين؛ حيث تخلص في تقييماتها بأنه يسعى لفرض استراتيجية أحادية في التعامل مما يتعارض بالفعل مع الخط الأمريكي ورغبة الرئيس جو بايدن في إعادة الهيبة الأمريكية إلى التعاملات الأمريكية كافة، سواء في مناطق النفوذ أو التأثير والتي تدخلها منافسة مع الجانب الروسي، ومع الرئيس الروسي شخصيا والساعي بالفعل إلى مناكفة الإدارة الأمريكية؛ حيث يرى أن موضوع قيادة الولايات المتحدة مساسا بحق روسيا الدولة الكبيرة في المنظومة الدولية والقادرة على مناطحة السياسة الأمريكية، بل منازلتها في مناطق النفوذ المعتادة ومحاصرة مجالات التحرك الأمريكي ليس في دول أخرى مثل الاتحاد الأوروبي بل في الشرق الأوسط وفي جنوب شرق آسيا، مما قد يعيد أجواء الحرب الباردة مرة أخرى، وهو ما تتخوف من تبعاته الولايات المتحدة التي ما تزال تدرس وتقيم المشهد السياسي والاستراتيجي، ولا تملك فعليا رؤية واضحة المعالم في التعامل مع الجانب الروسي، والملاحظ أن الإدارة الأمريكية ما تزال تكرر اتهاماتها للجانب الروسي بالتدخل في الشأن الأمريكي الداخلي واختراق آلاف المواقع الإلكترونية ومواقع التواصل الاجتماعي، والسعي لتأليب الداخل الأمريكي رغم انتهاء أزمة الرئيس الأمريكي ترامب، إلا أن الإدارة الأمريكية ترى في فتح ملفات معقدة محل خلاف، وتباين مع الرئيس بوتين قد يدفع لمقاربات سياسية جديدة منضبطة ومحكمة، إلا أن الواقع يشير إلى عكس ذلك تماما؛ إذ ستصعد روسيا ليس في مواجهة الولايات المتحدة بل تجاه دول الاتحاد الأوروبي، في إطار سيناريو يرتب له الرئيس بوتين جيدا بعد أن قامت الولايات المتحدة بتجديد العقوبات الأمريكية على روسيا، في إشارة مهمة إلى أن السياسة الأمريكية عازمة على دفع روسيا إلى حافة الهاوية، وهنا مكن الخطورة؛ إذ إن هناك فارقا بين الدخول في مناكفات مفتوحة بشأن حرب السفارات والدبلوماسيين، وعدد من المراكز المالية ووضع قوائم سوداء لعدد من المسؤولين الروس والأمريكيين، وهي أمور تذكر بالفعل بأجواء الحرب الباردة بين الجانبين، والاستمرار في هذا الخيار التصعيدي من الجانبين، والذي سيؤدي بالفعل إلى حالة من الاحتقان، خاصة إذا اتجهت الإدارة الأمريكية للدخول في ملف فنزويلا وأوكرانيا وشبه جزيرة القرم والقوقاز وآسيا الوسطى، وهو ما سيدفع الجانب الروسي للتعامل بالمثل في أزمة المفاوضات الراهنة والمستمرة بين إيران والولايات المتحدة وعرقلة ما سيجري، خاصة مع التطورات الراهنة في مباحثات فيينا، وبصرف النظر عما يتم الاتفاق بشأنه في ظل عدم التماهي الأمريكي مع الدعوة لحوار إقليمي بشأن التعامل مع المهدد الإيراني، خاصة أنه لأول مرة تتوافق المصالح الإسرائيلية والمواقف الواردة على المستوى العربي من الخطر الإيراني، والاستمرار الأمريكي في نهج تفاوض استجدائي والعمل على تجزئة الحل وصولا لاتفاق كامل.
ومن ثم فإن المناطحات الأمريكية الروسية ستستمر، ولن تتوقف وستدخل مجالات أخرى منها أيضا الملف السوري والليبي، وملف الأمن الاستراتيجي، وقضايا الطاقة والغاز وخطوط الغاز والترتيبات الأمنية الحالية، والتي ستكون محورا للتجاذب المباشر بين الجانبين لنكون أمام سيناريو شبه تصادمي، على الرغم من أن بعض خبراء الإدارة الأمريكية ينصحون بضرورة التوافق مع الجانب الروسي ولو مرحليا، والعمل معا وعدم الدخول في سيناريو المواجهة، لتكلفته العالية على الجانبين، خاصة مع القلق الأمريكي من الخطر الصيني، ومن الواضح أن دعوة اللقاء المؤجل بين الرئيسين الأمريكي والروسي قد تجدي صدى روسيا في المدى المنتظر رغم كل ما جرى أمريكيا، واتهام الرئيس الأمريكي للرئيس بوتين بأنه قاتل، ومن ثم فإن اتجاهات العلاقات الأمريكية الروسية سيحكمها حدود الصراع المشترك من جانب، ومخاوف التحول الروسي لمسارات أكثر التفافا حول المخطط الأمريكي بتضييق الخناق على السياسة الروسية من جانب آخر، ومن المؤكد أن الصين حاضرة في المشهد، وستسعى للالتفاف على ما يجري بتوطيد علاقاتها مع روسيا، في إطار صراع لن يحل بسهولة مع إدارة الرئيس بايدن ومخططها الاستراتيجي بالدخول في أقاليم متعددة في التوقيت نفسه لفرض مزيد من الضغوطات على السياسة الأمريكية، مثلما جرى في توقيع الاتفاق الصيني الإيراني، وهو ما قد يمتد إلى تركيا وربما أيضا مع إسرائيل في ظل العلاقات المتميزة مع تل أبيب، وبصرف النظر عن خصوصية العلاقات الأمريكية الإسرائيلية في هذا الإطار.
والواضح أن أية تحولات سياسية حقيقية في مسار العلاقات الأمريكية الروسية سيكون مرتبطا أيضا بالمنشود من قبل كل طرف لبدء صفحة جديدة من العلاقات في ظل تعقيدات حقيقية، وملابسات ممتدة وسيناريوهات متعددة، وفي ظل مصالح حقيقية متشابكة ومنفتحة على الكثير من المعطيات الجديدة، والتي تحاول إدارة الرئيس بايدن إقرارها في تعاملاتها الخارجية ليس فقط تجاه روسيا، وإنما تجاه الصين والاتحاد الأوروبي أي مع الدول المعادية وفقا لنهج أمريكي غير واقعي، أو الدول الصديقة التي تبني معها استراتيجية ممتدة وفقا لحسابات مدروسة، وهو ما ينطبق على التعامل الأمريكي مع حلف دول حلف الناتو بالأساس، باعتبارها الدول الأقرب لنمط التحالف الاستراتيجي، والشراكة الممتدة سياسيا واستراتيجيا.
لن تتطور العلاقات الروسية الأمريكية إلى مزيد من السيناريوهات الصفرية، وستظل قابعة في إطار سيناريو معضلة السجين وفقا لنظريات العلاقات الدولية المتعارف عليها، وسيعمل الجانبان على الالتقاء في منتصف الطريق، ولكن بعد أن يكون كل طرف قد وظف أوراقه جيدا، وأحسن استثمارها لنقل رسالة للجانب الآخر خاصة مع وجود ضغوطات حقيقية على الجانبين في مستويات عدة، وهو ما سيتطلب سرعة العودة للحوار، وإعادة بناء منظومة من العلاقات الثنائية مع الاحتفاظ بثوابت العلاقات المشتركة.