الضحايا كمرآة للحرب السودانية: شهادات تكشف قرارات تُهدر حياة المدنيين
لا يمكن فهم الحرب السودانية بعيداً عن وجهها الإنساني، ولا عن القصص التي يرويها الناجون والتي تكشف حقيقة ما يجري بعيداً عن التصريحات الرسمية للقيادات السياسية والعسكرية. فالحرب، مهما بدا أنها صراع على السلطة أو على شكل الدولة، هي في جوهرها سلسلة من القرارات التي تُتخذ في مكاتب ضيقة ويُدفع ثمنها في منازل الفقراء وعلى طرقات المدن المدمرة. ومن خلال تتبع الأحداث في دارفور والخرطوم، يصبح واضحاً أن الضحايا لم يكونوا مجرد نتاج جانبي لحالة الفوضى، بل كانوا جزءاً من هندسة الحرب ذاتها، وخط دفاع أول أو ثانٍ في بعض الأحيان، وضربة مقصودة في أحيان أخرى، حتى وإن حاولت الأطراف تبرير ذلك بالضرورة العسكرية أو الانسحاب التكتيكي أو الهجوم الاستباقي.
إن مراجعة شهادات السكان في غرب دارفور خلال الأشهر التي تلت اندلاع القتال تكشف أن نمط العنف لم يكن صدفة. فالقرى التي شهدت عمليات قتل جماعي كانت في معظمها مناطق ذات وزن اجتماعي أو سياسي لطرف ما، أو مناطق تقاطع نفوذ. ولم تكن هذه العمليات تحدث بمعزل عن تحركات القوات، بل كانت تتزامن بدقة مع تغيّر السيطرة على خطوط الإمداد أو على المراكز الإدارية. وهذا الترابط الزمني يبرهن على أن الضحايا كانوا نتيجة مباشرة لقرارات قيادية، سواء في التخطيط أو في التنفيذ أو حتى في التغاضي عن الانتهاكات. فالمرور على شهادات الناجين يظهر أن بعض القادة الميدانيين كانوا على علم بما يجري، وأن بعض الانتهاكات حدثت في ظل سيطرة كاملة من قوات معينة، ما يجعل من المستحيل تبريرها بأنها نتاج فوضى أو انعدام انضباط.
أما في الخرطوم، فقد ظهرت المأساة بشكل مختلف، لكنها لم تكن أقل وضوحاً. فالعاصمة التي يفترض أنها مركز مؤسسات الدولة تحولت بين ليلة وضحاها إلى مدينة محاصرة. لم يعد المدني قادراً على الوصول إلى المستشفى، ولم تعد سيارات الإسعاف قادرة على العبور من دون تفتيش أو احتجاز أو منع. وسجّل سكان أحياء كاملة أن بعض المعارك دارت في شوارع ضيقة تعج بالبيوت، من دون أي محاولة من القوات المتحاربة لتأمين المدنيين قبل بدء الاشتباكات. وفي كثير من الشهادات، كان واضحاً أن القوات التي تسيطر على منطقة ما كانت تتخذ قرارات ذات أثر مباشر على حياة السكان، سواء بالسماح لهم بالمغادرة أو بمنعهم أو بتركهم في مواجهة القصف.
ومن خلال كل ذلك، تتضح مشكلة أكبر: غياب أي قيمة لحياة المدنيين في ميزان الحسابات العسكرية والسياسية. وفي الدول التي تستقر فيها الحروب كجزء من الثقافة السياسية، يفترض أن الأطراف المتنازعة تمتلك على الأقل مستوى من الالتزام بالقوانين والأعراف الإنسانية. لكن في السودان، تلاشت هذه المبادئ خلال الأسابيع الأولى، وأصبح واضحاً أن الضحية مجرد رقم يُستخدم في خطاب إعلامي أو تفاوضي، وليس حالة يجب التحقيق فيها ومحاسبة المسؤولين عنها.
إن طبيعة القرارات العسكرية التي اتُخذت في الخرطوم، بما فيها الانسحابات المفاجئة من بعض المواقع أو الهجمات غير المحسوبة، تشير إلى أن المدنيين لم يكونوا جزءاً من أي اعتبار. وغياب التنسيق بين القيادات المتنازعة جعل السكان هم الحلقة الأضعف، حيث تُركت أحياء بكاملها للنهب أو للقصف أو للاشتباكات العشوائية. وفي بعض الحالات، كانت الفوضى أكبر من أن تُنسب إلى طرف واحد، لكن ذلك لا يلغي مسؤولية القيادات التي تركت الأمور تنفلت إلى هذا الحد.
تظهر خطورة الوضع أكثر حين نضع في الاعتبار التأثير الاجتماعي والنفسي لهذه الانتهاكات. فالضحايا ليسوا أجساداً تُدفن أو أسماء تُسجَّل، بل هم أساس ذاكرة جماعية ستؤثر على السودان لعقود قادمة. فالأطفال الذين شاهدوا عمليات قتل في الشوارع، والنساء اللواتي فقدن أبناءهن أو أزواجهن، والناجون الذين حملوا جراحهم من دون علاج، كلهم يشكلون مزيجاً من الألم والغضب وعدم الثقة، سيقود بالضرورة إلى تمزق أكبر في المجتمع السوداني ما لم يحدث تدخل جاد واعتراف حقيقي بالمسؤولية.
وتبرز هنا مسؤولية الإعلام والصحافة في توثيق هذه القصص، ليس لأجل عاطفة أو تعاطف، بل لأن هذه الشهادات هي الوثيقة الأهم التي ستُبنى عليها العدالة لاحقاً. فالتوثيق ليس عملاً ثانوياً، بل هو شكل من أشكال المقاومة في وجه الروايات التي يحاول كل طرف فرضها. وكل تسجيل أو شهادة تمثل جزءاً من بناء الحقيقة الذي لا يمكن تجاوزه في مرحلة ما بعد الحرب. لقد لعب المواطنون دوراً محورياً في هذا التوثيق عبر هواتفهم، وفي كثير من الحالات كانوا أكثر مهنية من المؤسسات الرسمية، لأنهم نقلوا ما رأوه بلا حسابات سياسية.
لكن السؤال الحقيقي يبقى: هل ستؤدي هذه الأدلة إلى محاسبة؟ الإجابة ليست واضحة حتى الآن، لأن البيئة السياسية في السودان لا تزال بعيدة عن أي اتفاق أو استقرار. ومع ذلك، فإن تراكم الأدلة يضع الأطراف المتحاربة أمام مسؤولية أخلاقية وتاريخية لا يمكن الهروب منها. فالعالم اليوم أكثر قدرة على تتبع الأدلة الرقمية، والجرائم التي تُسجل زمنياً وجغرافياً عبر المقاطع والصور والشهادات لن تختفي بسهولة. وحتى لو تأخرت العدالة، فإنها ستأتي، لأن الضحايا ليسوا مجرد تفاصيل في تاريخ الحرب، بل هم أصحاب حقوق لا تسقط بالتقادم.
إن السودان اليوم أمام اختبار وجودي، فإما أن تُبنى مرحلة ما بعد الحرب على الاعتراف والعدالة والمساءلة، وإما أن يُعاد إنتاج دورة العنف من جديد. والضحايا، بكل قصصهم المؤلمة، هم المرآة الحقيقية التي ينبغي أن ينظر إليها كل من يسعى إلى مستقبل مختلف. لأن تجاهل حقيقتهم يعني انحدار الدولة أكثر، والاعتراف بهم يعني بداية فعلية لإصلاح ما يمكن إصلاحه، وبناء وطن يضع حياة الناس قبل مصالح السلاح.
