اخترنا لكم

العراق من سياسة العنف إلى سياسة الأحزاب


هل بدأ العراق نفْضَ غبار الاستلاب؟.. هذا فعلا ما يحتاج إليه العراق والعراقيون.

ثمة إرهاصات جدية تشير إلى علامات التعافي. المخاض الداخلي لتشكيل حكومة جديدة وانتخاب رئيس، يتسلح بثلاثة عوامل:

أولها الوعاء الوطني الساعي إلى ترسيخ مفهوم الممارسة الديمقراطية بأدوات وطنية تحفظ حقوق جميع الأطراف الوازنة بنتيجة ما أسفرت عنه صناديق الاقتراع، وليس بسبب الانتماءات المذهبية والعرقية والطائفية، ولا بوحي الولاءات والارتهانات للخارج.

على العامل الأول أن يُتم بناء مرحلة لاحقة كعامل ثانٍ في سياق السعي لإقصاء الذهنية المليشياوية عن أي ساحة من ساحات اللعبة الديمقراطية، التي تقتضي البحث عن نقاط التقاء مع الحزب الحائز أكبر عدد من المقاعد النيابية، والذي يتصدى لإدارة عملية التفاوض مع الأطراف الحزبية الأخرى المؤهَّلة لتشكيل ائتلاف حزبي على قاعدة التحالف، ومن ثم البناء على القواسم المشتركة بهدْي المصلحة الوطنية العامة.

أما العامل الثالث فيبرز تلقائيا في سياق سلوك الطريق نحو الهدف الأبعد، أي عندما تتلاقى الإرادات الحزبية للأطراف المتفاوضة عند نقطة جامعة لتشكيل جسم برلماني موحد يحوز الأغلبية التي تمنحه صلاحية دستورية وقانونية لتسمية مرشح لرئاسة الحكومة، وترجيح كفة الاقتراع لصالح المرشح الرئاسي المقبل، حينها تصبح بقية الأحزاب الرافضة للدخول في الائتلاف، أو تلك التي لم تجد سبيلها إلى الانضمام إليه، تلقائياً في صفوف المعارضة، وهنا تترسخ أكثر مبادئ الديمقراطية عمليا وسياسيا وحزبيا، مع كل ما تنطوي عليه حواملها من ثقافة مستندة إلى معايير القوانين والأحكام الدستورية وضوابطها.

ثمة حدثان تزامَنَا، دون تخطيط، مع معترك الجهود لتسمية رئيس للوزراء وتشكيل حكومة جديدة، واختيار رئيس، في كل واحد منهما مؤشرات جلية على انتفاضة وعيٍ عراقيٍ بدلالة وطنية خالصة، الأول حين تجمع عشرات العراقيين في محافظة واسط جنوب العراق لمنع إقامة مهرجان تكريمي لقاسم سليماني في الذكرى الثانية لاغتياله.

والحدث الثاني تمثل في فشل قائد فيلق القدس الإيراني، إسماعيل قاآني، خلال زيارته بغداد وأربيل، في إحداث أي تغيير أو تأثير على ثوابت النهج الذي يتبلور على قاعدة وطنية لتشكيل الجسم الحكومي المقبل، انطلاقا من التفاهمات الحزبية كما أراد لها أٌقطابها من مختلف المكونات العراقية، وليس انطلاقا من المحاصصات الطائفية والعرقية، ولعل تغريدة زعيم التيار الصدري، مقتدى الصدر، التي أعقبت الحدثين قد رسمت أوضح الملامح دلالة على ذلك بقوله: “اليوم سنقول نحن والشعب: كلا للتبعية، قرارنا عراقي شيعي سني كردي تركماني مسيحي فيلي شبكي إيزيدي صابئي، فسيفساء عراقية وطنية: لا شرقية ولا غربية”.

التصميم على بلورة جسم سياسي وطني من خلال ائتلاف عدد من الأحزاب، كما يبدو حاليا، يحقق غرضين حيويين للعراق والعراقيين على المدى البعيد، الغرض الأول الإطاحة بمفهوم المليشيا كحاضن اجتماعي وحزبي وإطار مسلح لهما، وإسقاط جميع أركان البناء الطائفي تدريجيا من فلسفة الحكم المدني-الديمقراطي المنشود، وإحياء مبدأ المواطنة والانتماء للدولة عن طريق مؤسساتها الرسمية على قاعدة المساواة والعدالة والقانون، والغرض الثاني تنمية ثقافة “ثنائية” السلطة والمعارضة في الحكم، وإدارة البلاد بمعادلة “لا غالب ولا مغلوب”، بل تنافسٌ وسباقٌ نحو السلطة تحدده معايير وطنية ودستورية وقانونية.

عقود من عنف السلطة، وسلطة العنف تناوبت على بلاد الرافدين، تراجعت خلالها كل مقومات الحياة السياسية بمفهومها المدني الديمقراطي. الفرصة اليوم سانحة بيد التيارات الحزبية الوازنة التي تتصدر المشهد العراقي بحكم نتائج صناديق الاقتراع وحسب. على هامش التجاذبات الحزبية بين الكتل البرلمانية، حيث تسعى كل منها إلى حيازة حصة في السلطة استنادا إلى قاعدتها البرلمانية المتحققة في الانتخابات الأخيرة، تتراجع حظوظ وأدوار بعض الكتل، التي لا تزال تتحصن خلف متاريس وعيها الطائفي والولائي، تتراجع ليس على صعيد حضورها وتأثيرها في مواقف التيارات الحزبية المنافسة لها فقط، بل يبدو أنها تفتقر إلى كثير من بريقها أمام حواضنها.

إنها نتيجة طبيعية حين يتقدم الوعي الوطني على ما عداه، وحين يكون معيار الفوز والخسارة في المنافسة الحزبية نابعاً من الممارسة السياسية للأحزاب تحت سقف القوانين التي تفصل الحقوق والواجبات بالتساوي. إنها لحظة عراقية هي الأهم على طريق الخروج من حالة الاستلاب الخارجي، والاستدارة الواعية نحو خصوصية العراق مجتَمعاً وانتماءً وحضارةً ودورا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى