الغاز الروسي وعقدة الذنب الألمانية
التبعية الألمانية للغاز الروسي اختيار نفسي وسياسي وليست اضطرارا اقتصاديا فعليا.
ألمانيا تعاني، على وجه الحقيقة، عقدة ذنب تجاه روسيا، حيال ما فعلته في الحرب العالمية الثانية، ليس بأقل مما تعانيه تجاه الهولوكوست.
هذه العقدة هي التي صنعت التبعية الألمانية للغاز الروسي، وليس الاحتياجات الاقتصادية التي لا تنقصها البدائل.
انظر في الحقائق، وسترى أين تكمن المشكلة.
نصف الغاز الروسي المستورد في ألمانيا يخدم أغراض التدفئة في المنازل. وبينما يدفع المواطن الألماني أعلى تعريفة أوروبية للكهرباء، إلى حين بناء بدائل طاقة نظيفة، فقد تخلت ألمانيا، عمدا، عن نحو 30 مفاعلا نوويا منتجا للطاقة الكهربية، ولم يبق منها إلا مفاعلان اثنان من المنتظر أن يتم إغلاقهما خلال أشهر.
ببساطة كان يمكن لفاتورة الكهرباء أن تكون أقل بكثير. كما كان يمكن أن يُعوض ذلك النصف من الغاز الذي يذهب إلى المنازل بالتدفئة الكهربائية.
مزيج من التعبئة الأيديولوجية ضد الطاقة النووية التي يقر العالم بأسره أنها طاقة نظيفة، والميل النفسي المكتوم لتعويض روسيا، هو الذي دفع إلى استرخاص الاعتماد على الغاز الروسي.
وبينما يشترك في هذا الأمر الحزبان الرئيسيان الاشتراكي الديمقراطي الحاكم الآن، والاتحاد الديمقراطي المسيحي، فإن الأحزاب الأخرى، الأكثر شبابا، مثل الخضر والليبرالي، لا تؤخذ بعقدة الذنب، ولكنها تؤخذ إما بعقدة الأيديولوجيا الخضراء، وإما بعقدة المال الرخيص، أو الطاقة الرخيصة.
الحقيقة الثانية هي أن ألمانيا لم تبْنِ محطة واحدة لاستقبال الغاز المُسال، رغم أن محطات من هذا النوع هي البديل المنطقي لغاز الأنابيب.
لا يوجد عاقل واحد في الدنيا، يعتمد في أعز احتياجاته على مصدر واحد. ولكن ألمانيا لم تأخذ بخيار توسيع البدائل، عن عمد أيضا وليس عن جهل، لأنها اختارت أن تثق بروسيا، وهي فعلت ذلك لأنها تثق بالدرجة الأولى بما تعانيه من ألم تلك العقدة.
بعبارة أخرى، لأنها تثق برغبتها هي في أن تكون “تابعا” لروسيا، كما يتبع الأخُ المذنبُ أخاه الذي كان ضحية في السابق.
الحقيقة الثالثة، هي أن هناك مبالغة في تقدير الأضرار الاقتصادية التي يمكن أن تلحق بألمانيا، جراء ركود اقتصادي إذا استغنت عن الغاز الروسي. هذه التقديرات تقول إن حجم الأضرار يبلغ 180 مليار يورو سنويا.
هذه الخسائر، حتى لو كانت حقيقية تماما، فإنها تعادل عُشر ما تم دفعه من تعويضات وأضرار نجمت عن تفشي وباء كورونا. وهو ما يعني أن ألمانيا، أغنى اقتصاد في أوروبا، لن تعجز عن تحمل أضرار أقل كلفة مما تحملته بالفعل.
الحقيقة الرابعة، هي أن الصناعة الألمانية تستهلك 35% من الغاز المستورد. ولكن الحقيقة المقابلة هي أن ألمانيا تستورد 30.6% من الغاز من النرويج، و12.7% من هولندا، و1.6% من مصادر أخرى. بمعنى أن الصناعة لن تصاب بالضرورة بالشلل، خاصة إذا ما أعيد تشغيل المفاعلات النووية لتغطية احتياجات تدفئة المنازل، باستخدام الكهرباء بدلا من الغاز.
أضف إلى ذلك أن معظم الريف الألماني لا يستخدم الغاز للتدفئة أصلا، حيث تتم تغطية هذه الحاجة إما بالمازوت وإما بالخشب.
صحيفة “فرانكفورتر ألغماينة زونتاغس تسايتونغ” نقلت عن أندرياس غولتهاو، خبير الطاقة بالجمعية الألمانية للعلاقات الخارجية، في نهاية يناير الماضي، قوله “إذا كان الأمر يتعلق فقط بعروض الإمداد (بالغاز) على مستوى العالم، فإن بإمكاننا استبدال الغاز الطبيعي الروسي غدًا، بيد أن السؤال هو: كم نريد أن ندفع مقابل ذلك؟”.
هذا وجه آخر، يثبت أن التبعية للغاز الروسي تتعلق بالثمن المادي، وليس بالثمن السياسي أو الأخلاقي الذي يتعين دفعه في مواجهة الأزمة الأوكرانية الروسية.
ولكن حتى بالنسبة للثمن المادي، بل وحتى بالنسبة لـ”الثمن الأيديولوجي” -إذا جاز الوصف- فالحقيقة هي أن الاتحاد الأوروبي يملك 147 مفاعلا نوويا، أكثر من ثلثها في فرنسا وحدها. بمعنى أنه إذا كان الغاز الروسي رخيصا، فإن الكهرباء النووية الأوروبية أرخص.
تستطيع ألمانيا أن تستغني عن الغاز الروسي غدا. ولكن كيف تستطيع أن تستغني عن عقدة الذنب؟
الجواب الذي تنتظره الوقائع في أوكرانيا هو أن يرتكب “الأخ الضحية” ذنبا أكبر، فيتحرر “الأخ المذنب” من عقدته.
ساعتها فقط سوف يتم قطع الغاز الروسي، دون ركود اقتصادي مخيف ولا خسائر فادحة.