الفلسطينيون يشكّكون في نوايا ترامب وسط تصعيد إسرائيلي في غزة
عندما توسّط الرئيس دونالد ترامب في اتفاقٍ هشٍّ لوقف إطلاق النار بين إسرائيل وحماس في أكتوبر 2025، شعر العديد من الفلسطينيين ببارقة أملٍ نادرة. علّق الاتفاق صراعاً مكثفاً دام قرابة عامين، وقدم وعوداً بتبادل الأسرى والمحتجزين، وضماناتٍ بوصول المساعدات، ومساراً – نظرياً على الأقل – نحو إعادة الإعمار. غير أن هذا الأمل يظل هشاً، فثقة الفلسطينيين بواشنطن، وبترامب شخصياً، محدودة. ويفسّر التاريخ، والأحداث الأخيرة، وموازين القوى الفعلية، لماذا لا يمكن لهذه الهدنة أن تصبح دائمة إلا من خلال ضغطٍ أمريكيٍّ ثابتٍ وقويٍّ على إسرائيل.
تكمن المشكلة الأولى في التنفيذ. إذ يتوقف وقف إطلاق النار على استعداد إسرائيل لكبح جماح جيشها، والسماح بوصول المساعدات الإنسانية بشكلٍ فعلي، وقبول خطواتٍ سياسية من شأنها تغيير الوضع الراهن في غزة. ففي غضون أيامٍ من الهدنة، استؤنفت الغارات الإسرائيلية بعد أن أعلن الجيش أن قواته تعرضت لهجومٍ في رفح. والأكثر دلالةً ما حدث بعد استعادة إسرائيل عشرين من محتجزيها أحياء عبر مفاوضاتٍ مباشرة؛ فبدلاً من ترسيخ الهدنة، شنّت القوات الإسرائيلية قصفاً متجدداً. وفي الوقت ذاته، تخلّفت عن الوفاء بالتزاماتها بموجب الاتفاق، إذ بقي معظم الأسرى الفلسطينيين خلف القضبان، وامتنعت إسرائيل عن تسليم العديد من جثامين الفلسطينيين رغم التزاماتٍ سابقة. كما توقفت عمليات تسليم المساعدات مؤقتاً، وأُعيد تشديد إغلاق المعابر، وتعرضت أحياءٌ بأكملها لنيرانٍ متجددة. لقد أظهرت هذه الأعمال انتهازيةً لا حسن نية، وأكدت مدى سهولة تلاعب إسرائيل بشروط الهدنة لتناسب أهدافها العسكرية والسياسية. فبدون آلية إنفاذٍ خارجية، تظل الهدنة قويةً فقط بقدر ما تسمح به إسرائيل.
ثانياً، الأميركيون لا يرون الواقع نفسه، فالخطاب العام في الولايات المتحدة، في عهد ترامب، يركّز على الهدنة باعتبارها “نجاحاً دبلوماسياً”، ويؤطّر دور الإدارة على أنه “وسيط محايد”. لقد سافر ترامب ومبعوثوه، بمن فيهم غاريد كوشنر وستيف ويتكوف، إلى المنطقة لدعم الاتفاق. غير أن الحضور الدبلوماسي لا يعني بالضرورة ممارسة الضغط. فالزيارات والكلمات الودودة والصور التذكارية قد تساهم في تثبيت الوضع مؤقتاً، لكنها لا تُجبر الحكومة الإسرائيلية في حد ذاتها على تغيير سياستها، خصوصاً عندما يعتمد البقاء السياسي داخل تلك الحكومة على المواقف المتشددة.
ثالثاً، تبرز أهمية العلاقة البنيوية (الهيكلية) بين الولايات المتحدة وإسرائيل. فقد قدمت الإدارات الأمريكية المتعاقبة لإسرائيل الغطاء السياسي والسلاح والمعلومات الاستخباراتية مقابل تنازلاتٍ محدودة. وعندما يكون الدعم الأمريكي غير مشروط، يواجه القادة الإسرائيليون تكاليف سياسية داخلية أقل عند قيامهم بأعمالٍ عسكريةٍ تنتهك الهدنات. هذا النمط يجعل الشك الفلسطيني مبرَّراً ومنطقياً؛ فالفلسطينيون يدركون أنه حتى عندما تتفاوض الولايات المتحدة على اتفاقٍ ما، فإنها غالباً ما تفشل في دعم تنفيذه بـ”عواقب ملموسة” رداً على الانتهاكات. والنتيجة هي دوراتٌ متكررة من الهدنة والعنف.
رابعاً، إن مسألة المصداقية شخصيةٌ ومؤسسية في آنٍ واحد. فالعديد من الفلسطينيين يتذكرون اتفاقاتٍ سابقة توسّطت فيها أمريكا وأسفرت عن نتائج محدودة. كما أن قاعدة ترامب السياسية وحلفاءه في الكونغرس تضم مؤيدين أقوياء لإسرائيل يقاومون أي ضغطٍ على سياستها. هذا الواقع السياسي يقيّد ما يمكن أن يفعله ترامب دون الاصطدام بفاعلين محليين رئيسيين. علاوة على ذلك، يشير النقاد إلى “تضارب المصالح” المحيط بالمبعوثين الخاصين والعلاقات التجارية كأسبابٍ للتشكيك في مدى نزاهة وفاعلية الدبلوماسية الأمريكية. وهذه ليست مخاوف نظرية، بل لها عواقب حقيقية على ما إذا كانت واشنطن ستفرض تكاليف على الانتهاكات.
ما المطلوب لنجاح الهدنة؟
إذن، ما الذي يتطلبه الأمر كي يثق الفلسطينيون بوقف إطلاق النار ولكي يستمر؟ الإجابة مباشرة: ضغطٌ أميركيٌّ ملموس ومستدام على إسرائيل. يجب أن يتضمن هذا الضغط “خطوطاً حمراء” واضحة و”عواقب متوقعة”. لا ينبغي أن يعتمد فقط على بيانات القلق أو الدبلوماسية المكوكية. فالخطوات الملموسة يمكن أن تشمل جعل المساعدات العسكرية مشروطة، ووضع آلياتٍ للتحقق من تدفق المساعدات، ونشر فرق مراقبةٍ مستقلةٍ على الأرض، والمطالبة العلنية بفتحٍ سريعٍ للمعابر مثل معبر رفح. هذه الخطوات من شأنها أن ترفع التكلفة السياسية على إسرائيل عندما تنتهك الاتفاق.
تُعد المراقبة المستقلة أمراً ضرورياً، فوقف إطلاق النار بدون مراقبين محايدين ليس سوى “وعدٍ على ورق”. يمكن للمراقبين الدوليين، بدعمٍ من الولايات المتحدة، تتبّع الانتهاكات، وتوثيق تسليم المساعدات، وتقديم تقارير في الوقت الفعلي. وهذا من شأنه أن يقلّص المساحة المتاحة للادعاءات الإسرائيلية الأحادية بحدوث استفزازاتٍ أو لإنكار عرقلة المساعدات الإنسانية. كما أنه سيمنح الفلسطينيين أساساً أوضح للمطالبة بالإنفاذ.
إن جعل الدعم الأميركي مشروطاً سيكون صعباً من الناحية السياسية، لكنه فعّال، فواشنطن تزوّد إسرائيل بالعتاد العسكري والاستخبارات والدعم الدبلوماسي. فإذا ربطت الولايات المتحدة عناصر من هذه العلاقة بالامتثال لشروط الهدنة، سيواجه القادة الإسرائيليون “مقايضاتٍ داخلية” بين الأعمال العسكرية قصيرة المدى والفوائد الاستراتيجية طويلة المدى. هذا النوع من النفوذ يمكن أن يغيّر السلوك، وبدونه، ليس لدى إسرائيل سببٌ خارجيٌّ قويٌّ لقبول قيودٍ طويلة الأمد على استخدامها للقوة.
أخيراً، تتطلب الثقة الفلسطينية أيضاً معالجة الواقع الإنساني، فوقف إطلاق النار لا يتعلق فقط بوقف الرصاص، بل بالغذاء والماء والدواء وإعادة الإعمار. إن إعادة فتح المعابر، وضمان ممراتٍ آمنةٍ للإغاثة، وتخصيص الأموال لإعادة بناء المنازل والمستشفيات، هي احتياجاتٌ ملحّة. فإذا رأى الفلسطينيون تحسيناتٍ ملموسةً في حياتهم اليومية مرتبطةً بالهدنة، يمكن للثقة أن تنمو. أما إذا ظلت وعود المساعدات مؤجلةً أو مُسيّسة، فسوف تنهار الهدنة وتعود دورة العنف من جديد.
الخلاصة: الضغط بدلاً من الوساطة
باختصار، لدى الفلسطينيين أسبابٌ وجيهةٌ للتشكيك في ترامب وفي أي هدنةٍ تتوسط فيها الولايات المتحدة وتفتقر إلى الإنفاذ. الهدنة خطوةٌ أولى ضرورية، لكنها ليست كافية. فلكي يتحول وقف إطلاق النار من مجرد “هدنةٍ مؤقتة” إلى أساسٍ لعمليةٍ سياسيةٍ حقيقية، يجب على الولايات المتحدة أن تفعل ما هو أكثر من الوساطة؛ يجب أن تضغط – وأن يُرى أنها تضغط – على إسرائيل باستمرارٍ وعلانية. عندها فقط يمكن أن يتحول الهدوء الهش إلى حمايةٍ دائمةٍ لحياة الفلسطينيين وحقوقهم.
إذا أحجمت واشنطن عن استخدام نفوذها، سيبقى الاتفاق هشاً. فبالنسبة للفلسطينيين، الثقة تتبع الإجراءات الملموسة: مراقبون مستقلون، ودعمٌ مشروط، وممرات مساعدات مفتوحة، وإعادة إعمارٍ واضحةٍ للعيان. وفي غياب هذه التدابير، فإن الأمل يخاطر بالتحوّل إلى مجرد فترة هدوءٍ قصيرةٍ أخرى بين موجات العنف.
