المبادئ والسياسة.. حق يرادُ به مصلحة
الحديث عن الأخلاق والسياسة قد يبدو ترفا فكريا أو تأصيلا نظريا أكثر من كونه محاولة لفهم الوقائع السياسية، أولا لأن الممارسة السياسية لا تقتضي الأخلاق، وثانيا لأن طرح القضية بهذا الشكل قد يُفضي بنا إلى عموميات وتنظير بلا فائدة عملية. لكن ما شاب الأحداث العالمية الراهنة من أحداث أعاد مجددا سؤال علاقة السياسة بالأخلاق، وصلة الممارسة السياسية بالمبادئ.
التصريحات الأخيرة للشيخ حمد بن جاسم آل ثاني رئيس الوزراء القطري السابق، التي تضمنت أسرارا كثيرة واعترافات بدت متأخرة، فرضت الاستفسار عن الأخلاق في العمل السياسي، وعن أهمية المبادئ في تعاطي الدول مع السياسة ومع بعضها البعض. كما أن المواقف الغربية الأخيرة من الغزو الروسي لأوكرانيا، رغم كل ما أنتجه الغزو من انتقادات ورفض سياسي وحقوقي وإنساني، توسعت وطالت الأدباء والمفكرين والرياضيين، والواضح أن رحى الحرب الغربية على روسيا لم تستثن التراث الإنساني المشترك، ولم تعف الرياضة من شظاياها.
بناء على هذين المثالين، يجوز لنا أن نسأل: هل يمكن أن نعثر فعلا على مبادئ وأخلاق تسود العمل السياسي؟ أم أن المبادئ والأخلاق هي مجرد شعارات تنتهي صلوحيتها بانتهاء أيام الصفاء السياسي، وتركن إلى الأدراج حين تتضارب المصالح الاقتصادية أو السياسية؟
القول إن مسارات الدول وقراراتها تحددها المصالح الاقتصادية والسياسة أو سواها، هو قول صحيح لكن غير كاف. الدول، محكومة أيضا بمبادئ عامة تختطّها لنفسها، وتودعها في قوانينها ودساتيرها وفي توجهاتها الدبلوماسية أو الاقتصادية، وبهذا المعنى يسير البحث عن المصالح متوازيا مع احترام المبادئ العامة التي تعتمدها الدول. لكن يحدثُ أيضا أن “تخونَ” الدول مبادئها، لا من أجل المصالح كما يفترض، بل أحيانا لمجرد إفساد مصالح الآخرين أو لزرع العقبات في طريق نجاح الخصوم.
ما رشح مؤخرا من أسرار ومعلومات واعترافات في تصريحات الشيخ حمد بن جاسم آل ثاني رئيس الوزراء القطري السابق، هو من جنس الاعترافات المتأخرة، التي تصنف ضمن العمل السياسي والدبلوماسي الخالي من المبادئ، وخلوه من المبادئ لم يحصل من أجل المصالح الاقتصادية والسياسية القطرية، بل من أجل زرع المشاكل والفتن في أقطار عربية كثيرة، بل في كل الدول العربية، ولا يوجد دليل واحد على أن قطر استفادت اقتصاديا أو سياسيا من دعمها لجماعة الإخوان المسلمين، في مصر والسودان والأردن والمغرب وتونس وليبيا، وغيرها. قال حمد بن جاسم في حواره الأخير مع “القبس” الكويتية، “طلبت مني الإدارة الأمريكية من بعد تولي الدكتور محمد مرسي للرئاسة ترتيب لقاء في الدوحة بإشرافي يجمعهم مع رجال الاقتصاد بالإخوان، كان الأمريكان يريدون معرفة واستكشاف كيف سيدار الاقتصاد في مصر، حضر الفريقان وبمجرد الانتهاء من اللقاء كنت حزيناً جداً، فلقد اكتشفت أن هؤلاء الرجال مساكين ولا يصلحون إلا لإدارة دكان وليس دولة”. اعترف بن جاسم أن الإخوان لا يمتلكون من المعارف والقدرات ما يمكنهم من إدارة دكان وليس دولة، لكن ذلك الاكتشاف المبكر الذي حصل أواخر العام 2012 (مرسي انتخب رئيسا لمصر في يونيو 2012) لم يؤدّ- كما كان يفترضُ- إلى تراجع قطر عن تبنيها للمشروع الإخواني في المنطقة. هنا تتلاشى المعلومة ويحضر التحليل أو الافتراضات من نوع: ما الذي يدفع دولة تعرف أنها تراهن على جماعة لا تصلح لإدارة الدول، إلى الإصرار على ذلك الرهان؟ وما الذي يبرر مواصلة الرهان رغم كل ما أنتجه من خراب في المنطقة، أو في علاقات الدوحة بجوارها ومحيطها العربي؟ هل أن تعلة “الديمقراطية” التي ادّعت قطر أنها تتبناها في دعمها للمشروع الإخواني، يمكن أن تكون مقنعة لأي ملاحظ يراقب ما حصل في المشهد العربي الذي طرأ عليه الإخوان منذ لحظة الربيع العربي؟
واضح أن قطر هنا تمارس تناقضا غير بعيد عن تقية الإخوان. ذلك أنها أدركت، باعتراف أحد حمديها، أن الإخوان لا يصلحون لإدارة الدول، ومع ذلك واصلت دعمهم وإسنادهم بكل السبل المالية والإعلامية والسياسية، ولا يمكن فهم ذلك سوى بأنها كانت ترى فيهم أدوات لتخريب كل دول المنطقة من الداخل، وهي هنا طابور خامس تكفل بتحويل دول المنطقة إلى دول فاشلة وفاقدة لكل مقومات الدولة، وذلك يعني إعادة إنتاج الانتماءات القديمة، الطائفية والمذهبية والعرقية وغيرها، وهو ما حصل ويحصل في الكثير من الأقطار العربية منذ العام 2011. ولا يمكن أن يكون هذا العمل الدؤوب المتواصل (دعم الإخوان وبقية التيارات الإرهابية) نابعا من مبدأ، أو ذا صلة بأخلاق.
وإذا نظرنا إلى جزء آخر من خارطة العالم، فإننا سنمثل أمام وقائع مشابهة تنطق بلغات أخرى، لكنها تمتلك أوجه شبه كثيرة بـ”المبادئ” القطرية. في تعامله مع الأزمة الروسية الأوكرانية، أثبت الغرب أنه يتحركُ من أرضيات لا تمت للمبادئ الكونية والإنسانية بصلة، فالعقوبات الغربية التي طالت الرياضة الروسية ادعت أنها قامت على منطلق أخلاقي، مفاده أن “السماح للرياضيين الروس بالتنافس في وقت يعجز الأوكرانيون عن ذلك أمر لا يمكن تصوّره من الناحية الأخلاقية” وفق تبرير رئيس اللجنة الأولمبية البريطانية السير هيو روبرتسون. لكن “الأخلاق والمبادئ” التي حضرت لتبرير العقوبات أغفلت أولا مبدأ مهما وهو “حياد الرياضة” عن السجال السياسي، ذلك أن “فيفا” مثلا تعاقب كل لاعب أو فريق يستعمل شعارات سياسية أو يقدم مواقف أيديولوجية أثناء ممارسة اللعبة. والأخلاق نفسها التي حضرت لتبرير عقوبة روسيا صمتت في السابق عن انتهاكات سياسية كثيرة، ماثلت أو تجاوزت آثام الغزو الروسي لأوكرانيا ويكفي أن نقدم أمثلة الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، إلى التهم الموجهة للحكومة الصينية بممارسة الإبادة في إقليم شينجيانغ وغير ذلك من الأمثلة لكي نتبين أن الهياكل الرياضية الغربية لم تكن مبدئية في دفاعها عن دور الرياضة كما تدعي اليوم، ولم تكن مواقفها أخلاقية في استعمال الرياضة للذود عن حقوق الإنسان في معانيها الكونية. لكن المثال البليغ على ترنح المبادئ في العمل السياسي هو إعلان جامعة بيكوكا الإيطالية عن إلغاء تدريس أدب الكاتب الروسي فيودور دوستويفسكي، والذي كان منطلقا لموجة انتقاد واسعة أدت بإدارة الجامعة إلى التراجع عن قرارها، لكن التراجع لم يوقف موجة التساؤلات عن الحدود التي يمكن أن تبلغها الحروب، وموقع المبادئ الإنسانية من تطاحن المصالح الاقتصادية والسياسية.
من مجرد مثالين، تصريحات حمد بن جاسم والعقوبات الغربية على مواطنين ورياضيين وأدباء، تبين لنا أن المبادئ والأخلاق هي مجرد مفاهيم مودعة بعناية داخل المصالح الاقتصادية والسياسية، تتكيف طريقة استعمالها حسب المصالح والمنافع، وهي مبادئ توظف بشكل نفعي حيث تحضر عند الحاجة لها، وتغيب عندما تنفي تلك الحاجة. سلوك الدول وأخلاقياتها مشتقة من سلوك البشر وأخلاقيته، وحتى القيم الإنسانية الراقية التي توصل إليها الفكر الإنساني تتم خيانتها وطعنها عندما تتعارض مع المصلحة أو الحاجة.