المطلوب من الرئيس “بايدن”
انتقال الرئيس الأمريكي إلى خارج الأراضي الأمريكي حدث مهم بالنسبة للأمريكيين وللعالم.
ولا يتم هذا الانتقال إلا لأسباب وجيهة ومبررات مصلحية، بالنسبة للأمريكيين بالطبع.
من هنا تأتي أهمية أن يقوم الرئيس جو بايدن بجولة في الشرق الأوسط هي الأولى منذ توليه الرئاسة قبل سنة ونصف.
وليس من الصعب استقراء تصور الرئيس “بايدن” لزيارته المنطقة، خاصة بعد ما ذكره في مقاله المنشور منذ أيام في “الواشنطن بوست”.. والذي ركز فيه على ما يريد من المنطقة، فيما جاء غير واضح بشأن ما يحمله في حقيبته لدول المنطقة.
اعتبر “بايدن” أن رحلته إلى الشرق الأوسط تهدف إلى بدء “فصل جديد واعد من الانخراط الأمريكي”، وأكد ثقته بأن تلك الجولة الإقليمية ستخدم “مصالح أمريكية مهمة”.
ويبدو وصفه للزيارة بأنها “انخراط” أمريكي مجددًا في قضايا المنطقة، كما لو كان محاولة ظاهرية للاعتذار عن الانسحاب الفعلي من الشرق الأوسط، الذي تباشره الإدارات الأمريكية المتوالية منذ أوباما.
وكان الرئيس الأمريكي واضحا للغاية حين أكد أن الأمريكيين سيستفيدون بطرق عدة من “شرق أوسط أكثر أمانا واندماجا”، بل كان محددا للغاية وهو يربط تلك الاستفادة للأمريكيين بالممرات المائية الضرورية لحركة التجارة، وتوافر موارد الطاقة الضرورية لتخفيف تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية.
المعنى، أن السؤال الذي ظل يتردد طوال الأسابيع الماضية حول أهداف “بايدن” من الزيارة والمطالب التي سيطرحها على دول المنطقة، باتت إجابته واضحة وقاطعة بلسان “بايدن” نفسه، وهي أنه جاء إلى الشرق الأوسط من أجل الأمريكيين وفقط.. فهو حتى حينما أشار إلى المفاوضات النووية مع إيران وإلى تطوير مساعي السلام الإقليمي، تناول تلك المسائل من منظور مردودها الإيجابي على أمريكا وحليفها الأول في المنطقة، إسرائيل.
أما السؤال المهم، الذي يحتاج إلى إجابة شافية، فهو: ماذا سيقدم “بايدن” إلى دول المنطقة؟
بمتابعة المواقف الأمريكية الرسمية، سواء التي تصدر عن “بايدن” مباشرة أو عن “البيت الأبيض”، لا يوجد ذكر لما يمكن أن يحصل عليه “الشرق أوسطيون” من “بايدن”، أو ما يحمله معه لهم من عروض أو صفقات.
التصورات الأمريكية التقليدية ترى مصلحة دول المنطقة تنحصر في “السلام مع إسرائيل”، والذي سيستتبع بالضرورة حالة هدوء إقليمي وبيئة ضاغطة على طهران لتقلص مخاطرها.. لكن التطورات المتسارعة إقليميا وعالميا تجعل أجندة مصالح دول المنطقة، العربية خصوصا، أوسع وأكثر تعقيدا من هذا التصور المبسط.. بل ربما لا نبالغ إذا قلنا إن أولى مصالح دول المنطقة في المرحلة الحالية تتعلق أساسا بضمانات يجب على الولايات المتحدة الأمريكية تقديمها إلى دول المنطقة.
فالخبرة التاريخية للشعوب العربية مع سياسات واشنطن في المنطقة لا تشجع على الثقة مجدداً بـ”الحليف” الأمريكي.
بالتالي، على الرئيس الأمريكي وهو يكتب السطور الأخيرة في أوراق زيارته المهمة والمرتقبة، أن يكون لديه ما “يطمئن” الدول العربية، وبصفة خاصة دول الخليج العربي، فهي الأكثر تضررًا من السياسات الأمريكية تجاه قضايا المنطقة في الماضي، وهي أيضا الأكثر خشية من مخاطر “اللا سياسات” الأمريكية في الحاضر.
وبناء عليه، فحين يأتي الرئيس الأمريكي إلى المنطقة بحثا عن دعم قوي للموقف الغربي في الأزمة الأوكرانية، عليه أن يبلور موقفا أمريكيا واضحا ومحددا بشأن الخطر الإيراني على دول الخليج والمنطقة ككل.. موقف يتجاوز حدود رسائل الطمأنة الكلامية التي كررتها واشنطن كثيرا على أسماع شعوب المنطقة.
مطلوب تحرك أمريكي أوسع وأعمق من إعادة إنتاج الاتفاق النووي، الذي سمح إبرامه، بتغول إيران ومدّ أذرعها في المنطقة، ثم أتاح لها إيقافه استئناف أنشطتها النووية والاقتراب جدا من امتلاك قنبلة نووية.
على “بايدن” اتخاذ موقف لتطويق إيران عمليا، وبخطة تنخرط فيها واشنطن فعليا، لا تكتفي باقتراحها أو حتى قيادتها عن بُعد.. فالتعاون الإقليمي والتوجه نحو السلام على نطاق واسع بين دول المنطقة أمر مطلوب ومهم وجوهري لمستقبل مستقر وآمن للمنطقة ككل.. غير أن كل ذلك مقرون بدرء المخاطر الراهنة وحل المشكلات المزمنة في الشرق الأوسط.
وليس منطقيا ولا مُجديا أن تترك واشنطن دول المنطقة تواجه لحالها أهم تلك الأخطار على الإقليم، وهو إيران، بالرهان على تعاون ثنائي أو حتى إقليمي.. فيما تستعين واشنطن بدول المنطقة لضبط أسعار الطاقة في السوق العالمية.. وذلك لإدارة أزمة مع روسيا ليست دول الخليج ولا الدول العربية طرفا فيها.
كذلك ليس من المنطقي أن تسعى واشنطن إلى لمّ شمل دول المنطقة ككل في منظومة سلام وتعاون إقليمي، دون أن تقدم أي بادرة عملية أو خطة محددة قابلة للتطبيق، تضمن تسوية “عادلة” لأعقد وأهم مشكلات المنطقة، وهي القضية الفلسطينية.
ما لم يضع “بايدن” ضمن أولويات سياسته في الشرق الأوسط احتياجات دول المنطقة ومطالب شعوبها لمواجهة ما تتعرض له من مخاطر حقيقية ومساس مباشر بأمنها واستقرارها، فإن أي محاولة لإيجاد ذلك الاستقرار ظاهريا أو بصيغ غير واقعية ولا عادلة، لن تفضي إلا إلى مزيد من الصراع والاضطراب، الذي سيتردد صداه خارج المنطقة.. فالاستقرار والأمان الحقيقي لدول المنطقة ليس فقط تدفق النفط منها، بل هو المفتاح الحقيقي لاستقرار وأمان العالم وازدهاره.