المعادلة السياسية العراقية الصعبة
بعد قرار الزعيم الشيعي، مقتدى الصدر، سحب النواب التابعين له من مجلس النواب العراقي، يبدو العراق مقبلاً على مرحلة لا تقل صعوبة عن الفترة الماضية.
فبعد مرور ثمانية أشهر على الانتخابات البرلمانية فشلت القوى السياسية التي تشكل أغلبية نسبية بالبرلمان، المتمثل في تحالف “إنقاذ وطن”، المتشكّل من التيار الصدري مع الكتلة السنية والحزب الديمقراطي الكردستاني، في إنهاء الفراغ السياسي وتشكيل حكومة.
ولفهم خطورة الوضع الراهن، يجب الانتباه إلى أن مشكلات العراق ليست بين قوى سياسية أو مكونات اجتماعية عراقية فحسب.. بل توجد مشكلات ورواسب تاريخية داخل كل من تلك المكونات ورموزها السياسية، والمثال البارز على ذلك هو إقليم كردستان، إذ يعاني من انقسامات داخلية وخلافات جوهرية داخل الطبقة السياسية هناك.
صحيح أن بعض تلك الاختلافات موضوعية، أي تتعلق بطريقة إدارة وتسيير الأمور في الإقليم، لكن هناك خلافات أخرى لا تقل أهمية تتعلق بصراعات شخصية بين الساسة الأكراد “عائلة بارزاني وعائلة طالباني” على السلطة ومنافسة شرسة على توزيع المناصب الرئيسية.
وقد تجاوزت تلك الخلافات النطاق الكردي الداخلي إلى النطاق العراقي ككل، ففي حالة نادرة أصبح ترشيح شخصية كردية لمنصب رئيس الجمهورية محور تنازع بين الأكراد.
زاد هذا من تعقيدات المشهد العراقي وصعوبات التوصل إلى توافقات حول المناصب الكبرى بين القوى العراقية، خاصة أن لبعض تلك القوى “تربيطات” وتنسيق مع مكونات سياسية كردية. فكانت النتيجة تداخل العُقد السياسية وحدوث تغذية متبادلة سلبية بين النطاقين الكردي والعراقي.
وعلى التوازي من ذلك، حاول التيار الصدري خلال الأشهر الماضية تشكيل ائتلاف قادر على قيادة المنظومة أو المعادلة السياسية العراقية من خلال امتلاك أغلبية نسبية. لكن جاء انسحاب الكتلة الصدرية من البرلمان، مؤخرًا، ليشكل ضربة موجعة لمحاولات تشكيل حكومة متوازنة والخروج من المأزق الراهن.
ولعل من أهم تداعيات انسحاب الكتلة الصدرية من البرلمان، تأثيره السلبي على تحالف “إنقاذ وطن” الذي ضم الصدريين مع الحزب الديمقراطي الكردستاني والكتلة السنية “تقدم وعزم” اللذين شكّلا تحالف “السيادة”، حيث سيكون على كل من السنة والأكراد مواجهة اختلال التوازن الذي كان قائما داخل البرلمان، وفقدان القدوة البرلمانية، التي كانت مستندة إلى عدد النواب الصدريين. فوفقا للقانون العراقي سيتم تصعيد مرشحي الكتل الأخرى، الذين خسروا الانتخابات وجاؤوا في المرتبة الثانية بعد الصدريين.
ووفقاً لنتائج الانتخابات، فإن معظم مقاعد التيار الصدري ستذهب إلى الفصائل الشيعية، وأغلبها إلى الحشد الشعبي وليس المستقلين.
المعضلة الحقيقية في تغير هذه المعادلات واختلاف عدد النواب، انعكاساته المباشرة على عملية تشكيل الحكومة واختيار شخص رئيس الوزراء، وتوزيع الحقائب الوزارية المهمة. وهو ما يعني بدوره انتكاسة تجاه إلغاء المحاصصة الطائفية من جهة، وعودة الحسابات الضيقة والقيود التي فُرضت لسنوات على سياسات وقرارات إدارة الدولة. والتي أدخلت العراق لما يقرب من عقدين في حلقة مغلقة من التقوقع الطائفي والفساد السياسي والانهيار الاقتصادي. فضلاً بالطبع عما استتبع ذلك من ارتباط غير صحي بإيران وبصمات ثقيلة تركها الاحتلال الأمريكي على مجمل الملف العراقي.
إن استقالة “الصدريين” لا تعني بالضرورة العودة إلى عراق ما قبل الانتخابات الأخيرة، التي تمت في العاشر من أكتوبر 2021، وإعادة إنتاج المنظومة السياسية التقليدية. لأن المزاج العراقي العام الذي أفرز واقعا مختلفا على وقع تظاهرات واحتجاجات متوالية ومستمرة حتى انعكست في نتائج تلك الانتخابات، لم يتغير بعد. بل على العكس ربما صار أكثر تمسكا بالتغيير والابتعاد عن الطائفية لصالح إعادة بناء الدولة العراقية الوطنية.
الشارع العراقي، الذي ضجر من الطائفية وساند “الكاظمي” بقوة في توجهاته الوطنية غير الطائفية، لن يسمح بالعودة إلى المربع الأول.. وهو ما أثبتته التظاهرات والمسيرات والاحتجاجات التي ظلت تتصاعد لما يقرب من ثلاثة أعوام حتى أجريت الانتخابات وعكست إرادة العراقيين بشكل واضح.
وحيث تمتلك تلك القوى الطائفية التقليدية، التي وجدت في انسحاب التيار الصدري فرصة ذهبية للعودة إلى المشهد السياسي، أدوات للقوة المادية ووسائل للعنف أكثر مما تملك سياسيا أو حتى رصيدا شعبيا، فإن الوضع الراهن صار مفتوحا على الاحتمالات كافة.
المشهد العراقي يقول: إنْ لم يتراجع “الصدر” عن سحب نوابه، ولم تراعِ القوى السياسية الأخرى توجهاتِ المجتمع وأخذ أصوات الناخبين في الحسبان بشدة، فإن الاحتمالات كلها قائمة، بما فيها عودة العراقيين إلى الشارع مجددًا.
فعشرات الآلاف، الذين خرجوا اعتراضا على الطائفية والفساد والفقر وغياب عدالة التوزيع وحرية التعبير والانغلاق السياسي، وفرضوا إرادتهم على التركيبة السياسية اعتراضا على ممارسات الطبقة السياسية التقليدية، لن يخشوا الوقوف مجددا للحفاظ على أصواتهم وإرادتهم التي وجدت طريقها إلى البرلمان، إذا استشعروا أي تلاعب بهم من جانب القوى السياسية.