حصري

المغرب يكرّس واقعية الحل: قرار مجلس الأمن نقطة تحول في مسار الصحراء المغربية


في لحظة تاريخية ينتظرها المغاربة منذ سنوات، صوّت مجلس الأمن الدولي بأغلبية أعضائه لصالح القرار الذي يؤكد على مرجعية المقترح المغربي للحكم الذاتي كحل “واقعي ودائم وذي مصداقية” لقضية الصحراء المغربية.
القرار لم يكن مجرد توصية أممية جديدة في سلسلة قرارات تقليدية، بل محطة فارقة تعكس تحولًا نوعيًا في نظرة المجتمع الدولي للنزاع الإقليمي الممتد منذ أكثر من أربعة عقود.
وإذا كان هذا التصويت يُترجم دعمًا دوليًا صريحًا لموقف المغرب، فإنه في الوقت ذاته يُجسد نجاح رؤية دبلوماسية متكاملة قادها الملك محمد السادس ببراغماتية وواقعية سياسية جعلت من المغرب طرفًا فاعلًا لا مجرد دولة تُدافع عن وحدتها الترابية.

من المقاربة الدفاعية إلى المبادرة الواقعية

حين قدم المغرب مبادرته للحكم الذاتي سنة 2007، كانت الرباط تدرك أن السياق الدولي يتجه نحو تفضيل الحلول السياسية الواقعية بدل الخيارات الانفصالية.
السنوات اللاحقة أثبتت صحة هذه القراءة؛ فبينما ظل خصوم المغرب متشبثين بخطاب جامد يستند إلى مقولات الحرب الباردة، انتقلت الرباط إلى مقاربة هجومية قوامها المبادرة والتنمية الميدانية.
فالمغرب لم يكتفِ بالدفاع عن سيادته، بل بنى نموذجًا سياسيًا وتنمويًا في الأقاليم الجنوبية يعكس جوهر الحكم الذاتي قبل أن يُصبح واقعًا قانونيًا.

الاستثمار في البنية التحتية، إطلاق الموانئ الكبرى كميناء الداخلة الأطلسي، وربط المدن الصحراوية بشبكات الطاقة والطرقات الحديثة، كل ذلك شكّل برهانًا ملموسًا على جدية المشروع المغربي.
وبالتوازي مع ذلك، عززت الرباط حضورها الدولي عبر سياسة متوازنة في إفريقيا، وأعادت رسم علاقاتها مع القوى الكبرى بما يخدم ملفها السيادي.
اليوم، يُجمع المراقبون على أن هذا التراكم هو الذي مهّد لقرار مجلس الأمن الأخير، والذي يعد تتويجًا لمسار طويل من العمل الدبلوماسي والبراغماتي.

القرار الأممي: بين الواقعية والتحول في موازين المواقف

لغة القرار الأممي الأخيرة تعكس تحولًا جوهريًا في المفاهيم. فقد اختفت نهائيًا مفردة “الاستفتاء”، التي كانت تُشكّل العمود الفقري للخطاب الانفصالي، مقابل ترسيخ مصطلحات “الواقعية” و”الاستدامة” و”المصداقية”.
هذا التحول اللغوي لم يكن اعتباطيًا، بل يعكس اقتناعًا دوليًا بأن مقترح الحكم الذاتي المغربي هو الخيار الوحيد القابل للتطبيق دون المساس بالاستقرار الإقليمي.

من جهة أخرى، فإن تصويت غالبية الدول الأعضاء — وعلى رأسها الولايات المتحدة وفرنسا والإمارات والمملكة المتحدة — لصالح القرار، يُظهر بوضوح أن الملف لم يعد موضوع تجاذب أيديولوجي، بل مسألة أمن وتنمية واستقرار.
حتى بعض الدول التي كانت تُفضّل الحياد التقليدي، باتت اليوم تتحدث عن “جدية المقترح المغربي” وضرورة “طي صفحة النزاع المفتعل” في أسرع وقت.
بهذا المعنى، يمكن القول إن الدبلوماسية المغربية نجحت في تحويل النقاش من إطار “النزاع على الأرض” إلى “مشروع لتطوير الإنسان والأقاليم”.

القيادة الملكية كعامل حاسم

منذ اعتلائه العرش، حرص الملك محمد السادس على أن يجعل قضية الصحراء المغربية أولوية وطنية تتجاوز التغيير الحكومي والزمن السياسي.
فقد تبنى مقاربة تقوم على ثلاثة أبعاد مترابطة: الشرعية التاريخية والسياسية، والدبلوماسية الواقعية، والتنمية الميدانية.
هذه الرؤية مكّنت المغرب من توحيد جبهته الداخلية أولًا، ثم كسب ثقة المجتمع الدولي ثانيًا.

فعلى المستوى الداخلي، عززت مشاريع التنمية في العيون والداخلة الثقة بين الدولة والمجتمع المحلي، وأنتجت نموذجًا من التعايش والازدهار يوازي ما يطرحه المقترح المغربي للحكم الذاتي من مشاركة فعلية للسكان في تدبير شؤونهم.
أما على المستوى الخارجي، فقد اشتغلت المؤسسة الملكية على تنويع الحلفاء والشركاء، من واشنطن وباريس إلى داكار وأبوظبي وبرازيليا، معتمدة على دبلوماسية اقتصادية واستراتيجية تقوم على المصالح المتبادلة بدل التحالفات الظرفية.

هذا ما يفسر أن القرار الأممي الأخير لم يكن انعكاسًا لضغط سياسي عابر، بل نتيجة ثقة تراكمية بنتها الرباط على مدى سنوات من العمل المتزن.
ويكفي الإشارة إلى أن نحو 30 دولة افتتحت قنصليات عامة في مدينتي العيون والداخلة، ما يمثل اعترافًا دبلوماسيًا واقعيًا بالسيادة المغربية على الأقاليم الجنوبية.

الأبعاد الإقليمية والدولية للقرار

أهمية التصويت الأخير لا تقتصر على المغرب وحده، بل تمتد لتشمل معادلة الاستقرار في شمال إفريقيا ومنطقة الساحل.
فالمجتمع الدولي بات ينظر إلى الصحراء المغربية باعتبارها منطقة استقرار واستثمار، لا بؤرة توتر.
كما أن الحل المغربي يعزز فكرة “الحكم الذاتي في إطار السيادة الوطنية” كصيغة حديثة لتسوية النزاعات في إفريقيا والعالم العربي، وهو ما يُفسّر اهتمام الاتحاد الإفريقي بتجربة الرباط.

على المستوى الدولي، أعاد القرار تثبيت المغرب كشريك موثوق في قضايا الأمن الإقليمي، مكافحة الإرهاب، والهجرة غير النظامية.
فاستقرار الأقاليم الجنوبية يشكّل اليوم ركيزة في الأمن المتوسطي، خصوصًا مع التوترات التي تعرفها منطقة الساحل وازدياد نفوذ الجماعات المتطرفة هناك.
وهكذا، تحوّل المغرب من طرف في نزاع إقليمي إلى فاعل إقليمي يقدّم نموذجًا للحكم الرشيد والتنمية المتوازنة.

من الاعتراف الدولي إلى التفعيل العملي

التحدي الأكبر اليوم هو ترجمة هذا الانتصار الدبلوماسي إلى واقع مؤسساتي وتنموي أكثر عمقًا.
فالمرحلة المقبلة تتطلب تفعيل الجهوية المتقدمة والحكم المحلي في الأقاليم الجنوبية، مع تعزيز المشاركة السياسية والاقتصادية للسكان في تدبير شؤونهم.
كما أن المغرب مدعو إلى تحويل الدعم الدولي إلى استثمارات كبرى تجعل من الصحراء المغربية منصة اقتصادية تربط إفريقيا بأوروبا وأمريكا.

في الوقت ذاته، يبقى الرهان قائمًا على الحفاظ على هذا الزخم الدولي عبر استمرار الدبلوماسية الهادئة التي أثبتت نجاحها، بعيدًا عن الاستفزازات أو التصعيد الإعلامي.
فالمعركة لم تعد معركة قرارات، بل معركة بناء وتفعيل وقيادة.

الدبلوماسية المغربية تدخل مرحلة النضج

يمكن القول إن تصويت مجلس الأمن لصالح المقترح المغربي للحكم الذاتي لم يكن انتصارًا في معركة عابرة، بل إعلانًا رسميًا عن دخول القضية إلى مرحلة جديدة عنوانها الواقعية السياسية والإنجاز التنموي.
لقد استطاع المغرب، بقيادة الملك محمد السادس، أن يحوّل قضية الوحدة الترابية من ملف نزاع إلى قضية بناء دولة حديثة تستثمر في الاستقرار والشرعية والتنمية.

القرار الأممي، بما يحمله من رمزية سياسية، يمثل تتويجًا لمسار طويل من الصبر الاستراتيجي، ويؤكد أن البراغماتية المغربية انتصرت على الجمود الإيديولوجي.
ولعل أهم ما يميّز هذا الانتصار أنه لا يقوم على منطق الغلبة، بل على قوة الحجة والقدرة على الإقناع والفعل الملموس.
من هنا، يمكن القول إن المغرب نجح في فرض واقعية جديدة في النظام الإقليمي، تُعيد تعريف مفاهيم السيادة والحكم الذاتي والمصالحة في إطار دولة قوية ومتماسكة.

زر الذهاب إلى الأعلى