اخترنا لكم

الملكية البلاتينية


لم يترك الكتاب والمعلقون، خاصة في بريطانيا، جانبا من جوانب الملكية لم يسهبوا في الحديث عنه وسط احتفال المملكة المتحدة باليوبيل البلاتيني للملكة إليزابيث الثانية بمناسبة مرور 70 عاما على توليها العرش. إنما هناك زاوية مهمة، ربما للعالم خارج بريطانيا ودول الكومنولث، تحتاج لاضاءة أكثر في سياق ما يمر به العالم حاليا.

تجاوزت الملكة على العرش المدة التي جلست فيها جدتها الملكة فيكتوريا لتحتفل بالذكرى البلاتينية.

وإذا كانت جدتها تركت بصمة على البلاد، توصف دوما في مجال المعمار والفن والثاقفة وغيرها باسم “العصر الفيكتوري” فإن الملكة البلاتينية تمكنت من الحفاظ على عرش آل وندسور في ظل تقلبات استثنائية منذ الحرب العالمية الثانية حتى الآن.

واعتمدت الملكة على أمرين في غاية البساطة، والصعوبة في آن، وهما: البقاء بعيدا عن اضطرابات السياسة والحفاظ على التقاليد العتيقة.

من تابع أجواء احتفال البريطانيين باليوبيل البلاتيني للملكة اليزابيث يمكنه التقاط تلك الزاوية التي أود التركيز عليها.

وليس القصد الاحتفالات الرسمية بيومين عطلة واستعراض الطائرات ومسيرات الحرس الملكي وكل مظاهر الاحتفال. إنما أقصد الشعور العام في البلاد ولدى أغلبية المواطنين.

ذلك هو الانجاز الأهم في تصوري، وهو أن الأغلبية في بريطانيا مع الحكم الملكي بشكله الحالي، ولا شك أن فترة حكم الملكة على مدى سبعة عقود هو الذي حافظ على ذلك الشعور القوي لدى المواطنين.

ربما في ستينيات القرن الماضي كان الحديث بين النخبة البريطانية حول المفاضلة بين الملكية والجمهورية، وانتصرت فكرة بقاء الملكية.

ومنذ الستينيات إلى الثمانينيات كانت فترة تقلب في أوروبا والغرب عموما، جعلت البعض يتحدثون عن أن الملكية لم تعد مناسبة للعصر.

كان ذلك أحد النتائج الجانبية لتيار مناهضة “المؤسسة” في فترة ما بعد الحرب العالمية التي كانت أوروبا مركزها.

وفي السنوات الأخيرة، ومع صعود تيارات اليمين المتطرف واليسار الفوضوي أصبح استهداف “مؤسسة” الحكم التقليدية، بغض النظر عن طبيعتها ملكية أم جمهورية أم بين بين، جزءا من نشاط ذلك النمو لأطراف الطيف السياسي.

وفي ظل كل تلك الأجواء، والنيل من المؤسسات في أميركا وبعض دول أوروبا، إلا أن مؤسسة الحكم الملكي في بريطانيا تمكنت من تمرير تلك العواصف دون أن تنال من مكانتها لدى البريطانيين.

صحيح أن بعض دول الكومنولث البريطاني بدأت تحاول الخروج من “تحت التاج”، بمعنى استبدال سلطة الملكة البريطانية بشكل حكم حديث دون ملكية، لكن ذلك لم ينل من أهمية الملكية لدى البريطانيين.

ليس هذا فحسب، بل إن التراجع في وضع بريطانيا عامة، خاصة الاقتصادي، ربما أغرى البعض في دوائر السياسة بأن نظاما غير ملكي قد يسهل لهم تجاوز قواعد تقليدية في البلاد لتسهيل التخلص من بعض الأصول لصالح المستثمرين من الخارج، خاصة من الولايات المتحدة. لكن السياسيين يمكنهم القيام بذلك من خلال الحكومة ولبرلمان، دون أي تدخل من الملكة.

وذلك أهم ما حافظت عليه الملكة اليزابيث الثانية، سواء في ظل حكم حزب المحافظين أو حزب العمال. حتى تلك المهام التي يفترض تقليديا أن تكون بيد الملكة، ليس دورها فيها إلا مجرد دور شكلي تشريفي ويترك كل شئ للحكومة والبرلمان ومؤسسات الحكم.

وإن ظلت كل تلك المؤسسات تعمل باسم الملكة، فالحكومة هي “حكومة جلالتها” والمعارضة هي “معارضة جلالتها”، كذلك كل شئ حتى مصلحة الضرائب هي “هيئة جمارك وعائدات جلالتها”. وليس للمؤسسة الملكية في كل ذلك سوى الإسم فقط دون أي دور فعلي.

في مقابل صعود تيارات مناهضة المؤسسة، وزيادة نفوذ وتأثير الجماعات المتشددة والمتطرفة التي تكاد تشرذم النظام السياسي في البلدان الديموقراطية وغير الديموقراطية، تبرز محاولات استعادة ما هو تقليدي ولو بالقوة المسلحة.

فالرئيس الروسي فلاديمير بوتن، وإن كان الغرب يغالي في وصف حربه في أوكرانيا بأنها محاولة استعادة القيصرية أو حتى الاتحاد السوفييتي، يستهدف تقوية الدولة المركزية في موسكو.

كذلك تفعل الصين بعد استعادتها هونغ كونغ من بريطانيا ومحاولتها استعادة تايوان.

وبدرجة أقل من ذلك، نجد الدول التي كادت تفتتها موجات احتجاجات ما سمي “الربيع” (في شرق أوروبا ومنطقتنا العربية) تستعيد دول الدولة ومركزيتها.

وسط موجات المد والجذر تلك في المركز والمحيط العالمي، حافظت الملكية في بريطانيا على مكانتها. ولا يمكن القول أنها لم تتعرض لهزات على مدى العقود السبعة من حكم الملكة اليزابيث الثانية.

لكنها في كل الأحوال، وبالتزامها بخط مستقيم من التقاليد العريقة، تمكنت من تفادي أي آثار جانبية كبيرة تضر بمكانتها. ولا شك أن إرث الملكة البلاتينية سيضمن استمرار ذلك الوضع على الأقل في المستقبل المنظور.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى