المواجهة الأمريكية-الروسية في البحر الأسود
إذا كان بحر الصين الجنوبي هو ساحة المواجهة الاستراتيجية بين أمريكا والصين في منطقة الإندوباسيفيك، فإن ما يناظره في المواجهة بين أمريكا وروسيا في أوروبا هو البحر الأسود.
يُمثِّل هذا البحر أهمية جيو-استراتيجية لروسيا بحُكم موقعه المتميز على مفترق طرق بين أوروبا وآسيا والشرق الأوسط، مما جعله نقطة التقاء لعدد من الممرات الاقتصادية والعسكرية، واتصاله بالمحيط الأطلنطي من خلال البحر الأبيض المتوسط، وببحر آزوف من خلال مضيق كيرتش.
يمتد البحر الأسود لمسافة 1.175 كيلومترا، وتقع عليه ست دول هي روسيا وتركيا وبلغاريا ورومانيا وأوكرانيا وجورجيا. وهو معبر تجاري هام، تستخدمه مئات السفن بشكلٍ منتظم، وترقد في أعماقه العشرات من خطوط أنابيب النفط والغاز وكابلات الألياف الضوئية، إضافة إلى احتياطي ضخم من النفط والغاز.
ويزيد من أهميته لروسيا أنه أحد أهم ممرات سفنها إلى المياه الدافئة ومخرجها الوحيد إلى البحر المتوسط، ونقل تجارتها إلى أوروبا وخصوصاً فيما يتعلق بإمدادات النفط والغاز الطبيعي التي يزداد اعتماد دول أوروبا الغربية عليها.
لذلك، تُمثِّل مياه البحر الأسود خط المواجهة الرئيسي بين روسيا من ناحية والولايات المتحدة ودول حلف الأطلنطي من ناحية أخرى. فتقترب السفن الحربية التابعة للطرفين من بعضهما البعض بشكلٍ يدعو إلى الخطر. وكان من مظاهر ذلك في يونيو 2021، إبحار المدمرة البريطانية “ديفندر” (المُدافِعة) بمحاذاة شاطئ شبه جزيرة القرم، وردَّت موسكو بطلقات تحذيرية وإلقاء القنابل في مسارها.
دافعت لندن عن مسلكها بأن المدمرة أبحرت في المياه الأوكرانية، وذلك على أساس أنها لم تعترف بقانونية ضم روسيا لشبه جزيرة القرم. ومن ثَم، فإنها لم تُخالف قواعد القانون الدولي والملاحة البحرية. بينما اعتبرت موسكو الحادثة انتهاكاً لسيادتها على مياهها الإقليمية، باعتبار أن شبه جزيرة القرم جزءا من الدولة الروسية.
وفي يوليو، قام حلف الأطلنطي بمناورات بحرية شاركت فيها أمريكا وبريطانيا وعدد من الدول الأخرى، مما دفع موسكو إلى إجراء مناورات لتأكيد وجودها العسكري في المنطقة. وعلَّق نائب وزير الخارجية الروسي بأن بلاده لن تتردد في الدفاع عن حقوقها الإقليمية بكل الوسائل بما في ذلك القوة العسكرية، وحذَّر واشنطن ولندن من الانخراط في مغامرات عبثية. تكرر هذا الموقف أكثر من مرة في نوفمبر، عندما أجرى حلف الأطلنطي تدريبات بحرية عسكرية في البحر الأسود، وهو الأمر الذي وصفه الرئيس بوتين بأنه استفزاز وتحدي خطير. وكانت آخر مرة تبادلت فيها واشنطن وموسكو الاتهامات والتحذيرات يوم الثلاثاء 30 نوفمبر.
وفي الفضاء الجوي للبحر الأسود، تقوم الطائرات الأمريكية بطلعات استطلاع وجمع معلومات لمعرفة ما يحدث على الجانب الروسي بشكلٍ دوري، وهو الأمر الذي تتصدى له روسيا على الفور. فتقوم طائرات السوخوي 35، والتي تُعتبر أحدث وأقوى طائرة في الترسانة الجوية الروسية، بالمواجهة وتعقب الطائرات الأمريكية على مسافات قريبة.
ولا تقتصر المواجهة على البحر والجو فقط، وإنما تمتد إلى البر في منطقة الحدود الروسية-الأوكرانية التي يصل طولها إلى 1.576 كيلومتراً. فتُدين أمريكا سياسات التهديد العسكري التي تتبعها روسيا تجاه أوكرانيا، وحشدها لما يقارب مئة ألف جندي على الحدود معها في بداية شهر ديسمبر 2021، مما يُمثِّل مصدراً لعدم الاستقرار، وضغطاً على الحكومة الأوكرانية الموالية للغرب.
وتردُ موسكو على هذا الادعاء بأنها تحرِّك قواتها في داخل حدودها، وأن عدم الاستقرار في المنطقة يعود إلى عدم التزام أمريكا والدول الغربية بالتفاهمات التي توصَّل إليها الطرفان في أعقاب تفكُّك الاتحاد السوفيتي عام 1991، والتي كان من أبرزها عدم سعي حلف الناتو لضم دول الجوار الروسي إلى عضويته، والذي تعتبره موسكو تهديداً مباشراً لأمنها القومي.
والحقيقة، أنه بعد أن استعادت روسيا عناصر قوتها في عهد بوتين، فإنها سعت إلى إيجاد مواطئ نفوذ لها في البحر الأسود، وممارسة الضغط على الدول الموالية للغرب والتي تتبع سياسات مُعادية لها. فتدخلت عسكرياً لمنع هجوم جورجيا على إقليميْ أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا ذات الأغلبية الروسية، واعترفت بهما كدول مستقلة.
وفي غمار الصراعات السياسية الداخلية في أوكرانيا وإقالة الرئيس يانكوفيتش الموالي لموسكو، قرر الرئيس بوتين ضم منطقة شبه جزيرة القرم في عام 2014. وأعقب ذلك إنشاء قواعد للطيران الروسي ومحطات للرادار على قمم الجبال لإحكام المراقبة على سفن حلف الناتو، وأعلنت وزارة الدفاع عن إنشاء الجيش الثامن بالمنطقة العسكرية الجنوبية للبحر الأسود.
ولكل هذه الأسباب، فإن أمريكا وحلف الأطلنطي يعتبران البحر الأسود ساحة حيوية من أجل احتواء روسيا والضغط عليها، لأن نتيجة الصراع في البحر الأسود سوف تؤثر على أمن البحر المتوسط والأمن الأوروبي.
ولكن اتِّباع هذه السياسة له حدود. فواشنطن تُدرك أنها لا تستطيع إدارة مواجهة مع كلٍ من الصين وروسيا في نفس الوقت، وأنها لا ينبغي أن ترفع مستوى المواجهة إلى نقطة نشوب حرب ساخنة بين واشنطن وموسكو.