النفط والتضخم.. مَن المسؤول حقا؟
ثمة حقائق في العَلاقة بين التضخم وأسعار الطاقة لا يمكن التغافل عنها.
ما كان من الممكن أن تُنفق دول العالم مبلغا كبيرا -15 تريليون دولار- لمواجهة تكاليف وباء كورونا دون أن يكون لذلك أثر كبير على دوافع التضخم.
تلك الأموال دُفعت لتغطية تكاليف الإغلاقات والبطالة. وكان لا بد لهذا التضخم أن ينعكس على أسعار الطاقة.
أسعار الطاقة، بهذا المعنى، هي ضحية للتضخم أو انعكاس له، وليست سببًا فيه.
وبمقدار ما يتعلق الأمر بالاضطراب الذي نشأ عن فرض العقوبات على روسيا، فإن أواني النفط المستطرقة كان لا بد أن تعود لتتوازن. بمعنى أن ما تتم مقاطعته من هنا، يذهب إلى هناك، وما يتم استيراده في مكان يأتي من مكان آخر. تأثير هذا الاضطراب على الأسعار يظل، على هذا الأساس، محدودًا، ولا حاجة إلى المبالغة فيه، لا سيما وأن كبار المنتجين لم يقلّصوا إنتاجهم، بل زادوه، في موازاة الزيادة في الطلب.. بل إن ارتفاع أسعار النفط بدافع عامل التضخم الأول صار يشجع منتجين في الولايات المتحدة على زيادة إنتاجهم من النفط الصخري على وجه الخصوص. ما يعني أن الوقت لن يطول حتى ينشأ فائض في الأسواق. ولعله يُجبر المنتجين على خفض ما زادوه وليس العكس.
أسعار الطاقة في ألمانيا، على سبيل المثال، وهي مستهلك رئيسي للنفط والغاز الروسيّين، ارتفعت بنسبة 38 بالمئة. وهذا معدل أقل بكثير من معدل الضرائب الحكومية، التي يتم فرضها على النفط والغاز، وهي تعادل نحو 100 بالمئة، بالإضافة إلى 19 بالمئة أخرى هي ضريبة القيمة المضافة. أيام كان لتر البنزين يُباع بسعر 1.1 يورو، فإن الضريبة كانت تبلغ نحو نصف يورو من هذا السعر.
وباستثناء لوكسمبورج، التي تشطب القيمة المضافة، فإن المعدل الضريبي نفسه يُفرض في كل مكان آخر في أوروبا. وعندما ارتفعت أصوات الاحتجاج في بريطانيا، فكل ما خرجت به الحكومة هو خفض 5 بالمئة من ضرائب تزيد على 110 بالمئة على الكلفة الحقيقية لأسعار الطاقة، في دلالة على مستوى الشُّح، الذي تمارسه الحكومات الأوروبية حيال معدلات ضريبية عالية للغاية.
قصارى القول من هذا، إن إلقاء اللوم على ارتفاع أسعار الطاقة في التضخم هو قراءة مقلوبة للحقائق. التضخم النقدي هو الذي رفع أسعار الطاقة، وليس العكس. والضرائب العالية على هذه الأسعار تزيد الطين بِلّة.
يكفي إلغاء ضريبة القيمة المضافة، لكي تعود أسعار المواد الاستهلاكية إلى الانخفاض. فبينما تبلغ هذه القيمة 19 بالمئة، فإن أسعار المستهلكين في ألمانيا ارتفعت بنسبة 8.5 بالمئة. ولك أن تذهب بباقي المخيلة إلى أينما شاءت.
مع ذلك، يتوجب الإقرار بأن أثر التضخم الأصلي لن يزول. لأنه أمر لا علاقة له بأسعار الطاقة من الأساس.
محاولة إلقاء اللوم على أسعار النفط تُخفي رغبة أكثر سوءًا، هي إلقاء عبء التضخم على الآخرين. بقول آخر، الذين صنعوا المشكلة، يريدون أن يدفع الآخرون ثمنها. وهذا لم يعد مقبولا، لأن المنتجين هم بدورهم مستهلكون أيضا. بمعنى أنهم يدفعون الثمن نفسه عندما تتطلب تعاملاتهم التجارية شراء احتياجاتهم الأخرى.
أثر التضخم يمكن امتصاصه في النهاية. النمو كفيل بذلك. جانب من التضخم يمكن أن يتراجع أيضا بانخفاض معدلات الاستهلاك. وهو ما يدفع بعض الاقتصاديين إلى القول إن “هبوطا ناعمًا” للاقتصاد يمكن أن يحقق هذه الغاية.
ولكن حتى مع هذا النمط من الهبوط، أو حتى الركود نفسه، فإن أسعار النفط لن تعود إلى معدلاتها السابقة. المراوحة الراهنة للأسعار سوف تظل بين 100 و120 دولارا للبرميل. وهناك سببان رئيسيان لذلك. الأول هو أن معدلات النمو السابقة لم تنعكس على أسعار الطاقة، بسبب ما تعرضت له من كبح خلال أزمة كورونا. والثاني هو ارتفاع الطلب، وهو عامل أساسي من عوامل حركة الأسعار.
وهذان أمران بنيويان، لا علاقة لهما بأي طوارئ.
الدول المنتجة للنفط، أظهرت، على الدوام، حرصا راسخا على الاستقرار. وفي كثير من الأحيان كانت تقدم التضحيات. ولكن الوقت قد حان للذين امتنعوا عن تقديمها أن يتقدموا بخطوة واحدة على الأقل لتخفيف العبء عن مواطنيهم.
المستشارية الألمانية تُجري مشاورات منطقية ومعقولة بين الحكومة والنقابات والشركات، في ممارسة تُدعى بـ “النهج المنسق”، والتي تعود في أصولها إلى عام 1967 عندما واجهت ألمانيا ركودًا لأول مرة منذ الحرب العالمية الثانية.
في تلك الممارسة كانت التضحيات المشتركة هي السبيل للتغلب على عواقب الركود والتضخم.
ما كان صحيحا في ذلك الوقت، يمكن أن يكون صحيحا في هذا الوقت أيضًا. والدلالة الأساسية في تجربة “النهج المنسق” هي أنها عالجت الأزمة دون أن تنتظر تراجع أسعار النفط، ولا أن تلقي باللوم على المنتجين، ولا أن تراهن على قراءات مقلوبة للأسباب.
هل تريد دليلا إضافيا؟
أسعار النفط، التي تحررت من الضغوط في عام 1973، لم تدفع الاقتصاد الألماني إلى التراجع. العكس هو الذي حصل. لأن ألمانيا ظلت تجني ثمار النجاح في جهد “النهج المنسق”.