لا يستقيم النظر إلى النشاط اللافت لتنظيم داعش الإرهابي، أخيرا، على بقعة جغرافية سورية بعينها من زاوية حادة.
أي من زاوية ضيقة تقتصر على المربع الذي يتحرك في نطاقه، ولا تبدو قراءةُ نشاط خلاياه في منطقة صحراوية تربط وسط وغرب سوريا بجنوبها منطقيًا إذا ما اقتصر على جانبه الميداني الدموي وعملياته في الكر والفر، ثم الذوبان في متاهات صحراء منبسطة ومترامية الأطراف، لأن من شأن هكذا قراءات مبتسرة حجب خفايا بقية أضلاع الدائرة التي تَشَكّل تنظيم داعش الإرهابي بين ثناياها ومنحنياتها قبل أكثر من ست سنوات تحت اسمٍ ظَل إشكاليًا وسيبقى مثيرًا للاستفهام.
ولا يستقيم هذا النظرُ أيضا إذا ما غفلنا أو تغافلنا عن “دويلة الهول”، جنوب شرق محافظة الحسكة السورية، بدلالاتها الرمزية، تنظيميًّا ونفسيًّا واجتماعيًّا، وسياقات مستقبلها ومصير قاطنيها المؤقت كما هو مفترض، وهي التي تضم مئات العائلات والأسر “الداعشية”، نساء وأطفالا، من جنسيات معظم قارات الكون تم اعتقالهم في سوريا والعراق، معظم الدول العظمى وكذلك الإقليمية تناوبت على إطلاق التصريحات والمواقف التي تجزم بنهاية التنظيم على أرض الواقع بعد تجييشٍ بري وبحري وجوي دولي، ومعارك خيضت ضده طحنت البشر كما الحجر في أماكن سيطرته حينها، وأفقدته جميع إمكانيات وأدوات الفعل والقدرة على الفعل وفقًا لادعاءاتهم كافة، لكن إعلانات تلك الدول تركت الباب مواربًا بتضمينها تحذيرات لا تخلو من إثارة حول خطر تحول أفكار التنظيم الإرهابية إلى ثقافة ونهج كامن لدى فلوله في غير بقعة جغرافية من العالم؛ وهذا ما حدث فعليًا ولكن على نطاق ضيق جدا بدا أقرب إلى النزعة الفردية منه إلى نهجٍ وممارسة واعية.
قد يكون هذا الطرح قابلًا للنقاش والتمحيص بدرجات متفاوتة قياسًا إلى تفاوت مستويات الوعي السياسي والاجتماعي والثقافي للمجتمعات التي يمكن أن تكون هدفًا لاحقًا لغزو فكري من قبل داعش، وفي حالة واحدة لا ثاني لها؛ ألا وهي امتلاك فلول التنظيم الإرهابي منصات ومناهج وبرامج وأدوات تتيح لهم التغلغل في المجتمعات المستهدفة على نطاق علني صريح وواضح، وهذا ما لا يمكن توفره على أرض الواقع، باستثناء مواقع التواصل الاجتماعي، وهي قيد الضبط والرقابة الصارمة على جميع الصعد والمستويات رغم الإمكانات الكبيرة التي حازها تنظيم “داعش” إبان سيطرته على عدد من المناطق السورية والعراقية لفترة محددة، وكشف حينها عن مهارات فائقة في بعض الجوانب التقنية والتكنولوجية ووظفها لخدمة آلته الإرهابية والإجرامية ضد المجتمعات التي هيمن عليها، وسلب منها حريتها وكيانها ووجودها ومستقبلها قبل حاضرها.
يطرح انبعاثُ داعش في سوريا، وتواترُ عملياته الأشبه بالكمائن وعمليات القنص، بعد كمون استمر سنتين ونيف منذ هزيمته، عددًا غير محدود من الأسئلة حول حقيقة وجوده وماهيته، وحول مواقع تموضعه في عدة مدن سورية متداخلة الحدود عبر الصحراء، وما إذا كان لا يزال يمتلك القدرة على التحرك في وضح النهار أحيانًا دون رصد أو ملاحقة أو مجابهة؟ كيف تمكن هذا التنظيم، أو ما تبقى من فلوله، من ترتيب أوراقه الهجومية في مناطق صحراوية منبسطة خاضعة للمراقبة بسهولة جوا وبرا؟ ما هي الجهات التي تغذي داعش بالاحتياجات والدعم اللوجستي والمعلومات الدقيقة التي يبني عليها خططه الهجومية المباغتة؟ هل تحوّل هذا التنظيم الإرهابي إلى أداة تنفيذية بيد بعض القوى المنخرطة في الأزمة السورية تحركها تبعًا لبوصلة مصالحها؟ هل ما يقوم به داعش ما هي إلا رسائل من تلك القوى للإيحاء بأن سوريا أبعد ما تكون عن ضفاف الاستقرار والخروج من عنق الزجاجة؟ لماذا لا يسارع التحالف الدولي الذي تَشَكّل قبل بضع سنوات خصيصًا لمحاربة التنظيم على أرض العراق وسوريا وحقق نجاحًا ملموسًا على صعيد تحطيم التنظيم، لكن دون استئصاله، إلى إعادة العمل والتنسيق مع الدول المعنية به للإجهاز على ما تبقى من مسلحيه؟ لماذا لا يجري تشكيل مجموعات مسلحة من قوات الدول الموصوفة بالحليفة للدولة السورية لدعم الجيش السوري في تصديه لداعش، أو لشن حرب واسعة مشتركة لاستئصال فلوله من مربع جغرافي سهل الاختراق، نظرا لأنه أرض منبسطة من جانب، ويمكن تطويقها بسهولة من جهات أربع متاخمة لأماكن اختباء مسلحي داعش المفترض من جانب آخر؟
بقدر ما تتسع الأجوبة لتوضيحات فإنها من دون شك لا تستطيع القفز فوق واقع المصالح والأجندات المزدحمة في سوريا وعلى سوريا، تارة تتقاطع وتارة تتعارض في ظل غياب مسارات فعلية وعملية لوقف النزيف السوري الذي يشكل نافذة لتنظيم داعش ولغيره من القوى المتربصة بها، كي تتسلل كلما سنحت لها الفرصة وتوحي بأنها لا تزال ساحة لتصفية الحسابات بطريقة أو بأخرى.
رسائل تنظيم داعش الإرهابي على الأرض السورية تشير إلى وجوده وبقائه وقدرته على العمل، وإن كان بأساليب الكر والفر في تنفيذ عملياته الإجرامية، وهذا يتطلب إعادة قراءة للحسابات والأولويات من جانب الدولة السورية، أولا كونها المعنية بهذا التحدي الأمني والوجودي، ومن قِبل بقية اللاعبين الإقليميين والدوليين، ثانيًا كونهم معنيين بتبعات مخاطر استفحال نهج داعش الإرهابي على مصالحهم وبلدانهم، مواجهة التنظيم انطلاقا من مقاربات جديدة لا بد أن تتواءم مع طبيعة الظروف الميدانية التي تتحرك في مضمارها خلاياه النائمة من جهة، وقطع خطوط إمداده وتحديد الجهة الراعية والداعمة لعملية انبعاث هذا التنظيم الإرهابي مجددا من جهة أخرى.