حالة ارتباك تلف أركان نظام أردوغان، السياسية والعسكرية والاقتصادية، لمعرفتهم الدقيقة بنقاط التصادم مع إدارة بايدن في القريب العاجل.
امتعاض مرافق سلطة أردوغان سياسيا وحزبيا من وصول بايدن إلى إدارة البيت الأبيض بدا ملموسا في جانبين؛ الأول التلكؤ بتقديم التهنئة للرئيس الديمقراطي الجديد إلى أن جاءت متأخرة، والجانب الثاني تمثل بانهماك دوائر القرار التركي بمراجعة الملفات التي تشكل نقاط تماس وتجاذب مع الأمريكيين ومصالحهم، بهدف إعادة ترتيب تلك الأوراق أو بعضها استعدادا لمواجهة يتوقعها ويترقبها طاقم الحكم الأردوغاني وفقا لما كشفته أوساط سياسية وإعلامية تركية، وقد يكون هذا الانهماك انعكاسا مباشرا لحالة الارتباك التي باتت تلف أركان السلطة الأردوغانية، السياسية والعسكرية والاقتصادية، لمعرفتهم الدقيقة بنقاط التصادم مع الإدارة البايدنية في القريب العاجل بعد أن تنخرط تلك الإدارة فعليا في مهمتها.
كثيرة هي الملفات التي تكدست على طاولة الإدارة الأمريكية الديمقراطية الجديدة برئاسة جو بايدن مرحلة من الإدارة الجمهورية بزعامة ترامب، قبل مباشرتها مسؤولياتها لقيادة الولايات المتحدة لسنوات أربع مقبلة؛ بدأت بعض أركانها بترتيب أوراقها وأولوياتها، حتى إن بعض مفاصل إدارة بايدن راحت توزع الإشارات تدريجيا بشأن رؤاها للقضايا الداخلية والدولية. الاختلاف والتباين في مقاربات العديد من القضايا بين الإدارتين الجمهورية المنتهية ولايتها، والديمقراطية العتيدة، أمر طبيعي؛ فلكل منهما تصوراته وأساليبه وأدواته في التعاطي مع القضايا المحلية والخارجية ومعالجتها، ورسم السياسة التي يراها ناجعة لتحقيق مصالح بلاده العليا. ربما تكون أكثر ملفات إدارة بايدن تعقيدا وتشابكا خلال فترة إدارتهم المقبلة هي العلاقة مع أردوغان، ويمكن تلمس هذه التعقيدات من خلال سبر مسار علاقات الجانبين في فترة إدارة ترامب؛ حيث سجل بايدن ومؤيدوه على الإدارة الجمهورية جملة من المآخذ المرتبطة بالنهج الذي اتبعته مع الرئيس التركي في عدد من القضايا والملفات الشرق أوسطية تحديدا، ومنحه خلالها فرصا على حساب مصالح واشنطن ومصالح حلفائها التاريخيين في المنطقة بشكل عام.
يدرك العثماني الجديد وأركان سلطته أن ما جناه في المرحلة القصيرة من الزمن الماضي ينطوي على مخاطرتين كبيرتين مستقبلا، تتمثل الأولى بالبعد الاقتصادي كنتيجة مباشرة لتلك المخاطرتين، حيث التعثر الاقتصادي يتواصل بطريقة غير مسبوقة، والليرة التركية تنزلق نحو هاوية لا قرار لها حتى الآن، يترافق الانزلاق مع معالجات بدائية نزقة نابعة من أوهام القدرة على تطويق التحديات الاقتصادية الهائلة والحد من تداعياتها على مجمل المشهد التركي، وما قرار إقالة صهره “بيراق” من رأس وزارة المالية إلا محاولة من قبل أردوغان تجاه جمهوره الداخلي للتعمية على بواعث سياسته التوسعية والعدائية لكثير من دول المنطقة والتي كانت نتيجتها الأولى هذا الانهيار التدريجي في الجسم الاقتصادي العام للبلاد.
لا يبدو الحديث عن تحولات أو تغيرات في السياسة الأمريكية في عهد الديمقراطيين استثنائيا أو مفاجئا، طالما أن السياسة العليا للولايات المتحدة مرتبطة بمصالحها القومية الكبرى، في ملف العلاقة مع “تركيا-أردوغان” كانت إرهاصات عديدة قد ظهرت كمواقف من الخارجية الأمريكية أو من دوائر الكونجرس في فترة حكم الجمهوريين الذين يستعدون لمغادرة البيت الأبيض ومؤسسات السلطة، مواقف ترفض استمرار الجانب التركي في سياسته الاستفزازية ونهجه التوسعي وأسلوب الابتزاز سواء في قضية اللاجئين ضد أوروبا، أو في قضية النفط والغاز شرق المتوسط خاصة ما تعلق منها باليونان، حين اختار بومبيو العاصمة اليونانية منبرا لرفع الراية الحمراء بوجه أردوغان وأطماعه، وحسم أمر دعم واشنطن لأثينا ليس في حقوقها في نفط وغاز المتوسط فقط؛ بل في الشراكة الراسخة بين الجانبين، ورغبة واشنطن في جعل أثينا عنوانا لاستقرار وازدهار منطقة شرق المتوسط وفقا لتعبير وزير الخارجية الأمريكية، علاوة على أن انحراف أردوغان باتجاه روسيا، الخصم التاريخي للولايات المتحدة وللغرب وللناتو، كان مثار انتقادات واشنطن ورفضها مع شركائها الغربيين، ولوحوا بعقوبات صارمة ضد تركيا بجريرة الانحراف الأردوغاني ومغازلته موسكو، منتهزا فرصة التوترات في غير ملف وقضية بينها وبين الغرب ومنها قضية الصواريخ الروسية اس 400 لابتزاز واشنطن في صفقة طائرات اف 35، يضاف إلى ذلك ما يستشعره الأطلسي من احتمالات كشف أردوغان منظومة الحلف الأمنية أمام روسيا، مقابل الحصول على مكاسب سياسية وعسكرية في مناطق معينة يتشاركان فيها اللعبة.
تتراوح خيارات أردوغان بين القليلة والمعدومة في مواجهة الضغط الأمريكي المقبل عليه؛ ففي مسألة العلاقات مع الغرب والأطلسي واحترام مصالحهم يمكن أن تتاح له خيارات محدودة تمكنه من التملص من ربقة العقوبات التي سيواجهها شريطة وفائه بتعهداته وضمان مصالح واشنطن والغرب وصونها، أما الخيارات التي تكاد تكون معدومة لديه فمرتبطة عضويا بملف مصالح واشنطن مع حلفائها في المنطقة خاصة مع الدول التي تتعرض لابتزاز وتهديد الجانب التركي، وكذا الأمر بالنسبة للتهديد الذي يمثله جنوح أردوغان “انتهازيا” نحو موسكو وتلويحه بالحصول على سلاح روسي، ففي هذين المسارين لا مجال لحلول وسط مع بايدن والديمقراطيين استنادا إلى فلسفتهم الخاصة بإدارة العلاقات مع تركيا- أردوغان.