اخترنا لكم

بريطانيا.. “ندم” بريكست


لم تُعلَن إحصائية دقيقة بشأن عدد الذين ندموا على التصويت لصالح خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي عام 2016.

ما يحصل في البلاد منذ ذلك التاريخ يرجّح أن تكون أرقام هؤلاء في ازدياد مستمر، ولكن هل يعني ذلك أن الغالبية القليلة، التي اختارت “الاستقلال” في ذلك العام، قد تحولت إلى أقلية ضئيلة اليوم؟

مَن اختاروا “انفصال” لندن وبروكسل قبل ستة أعوام كانوا يدركون أن البلاد تقف على أبواب مرحلة انتقالية صعبة لإنجاز “استقلالها” الاقتصادي والقانوني عن الاتحاد الأوروبي، بعد عقود طويلة من ارتباط المصير والمصالح.

ولكن جائحة كورونا زادت الأمر تعقيدًا، وضاعفت تداعيات الخروج على البريطانيين في مجالات العمل والحياة كافة.

في العين المجردة كما يقال، تستطيع أن ترى كيف تسبب “بريكست” في نقص اليد العاملة في قطاعات اقتصادية عدة.. وكيف “تآمر” مع عوامل داخلية وخارجية مختلفة ليرفع من كلفة المعيشة على سكان المملكة المتحدة.. إضافة إلى أنه وضع حدود البلاد أمام تحديات كبيرة جدا، ربما لن تتمكن حكومة حزب المحافظين من تجاوزها.

من بين تحديات الحدود ما بات يهدد وِحدة المملكة المتحدة. فاثنتان من دول المملكة، وهما أيرلندا الشمالية واسكتلندا، تقفان اليوم على حافَة الانفصال عن بريطانيا. الأسباب تختلف بينهما، ولكن خطر تفكك المملكة واحد، وربما يؤدي إلى نتائج أسوأ محليًّا مما حمله “انفصال” لندن وبروكسل، الذي بدأ تنفيذه مطلع عام 2021.

الجزء الخاص بأيرلندا الشمالية في اتفاق “بريكست” هو ما قد يقودها للانفصال عن المملكة المتحدة.. فأيرلندا الشمالية تلتزم بحدود مفتوحة مع جارتها الجنوبية وفق معاهدة السلام المبرمة في 1998. وإنْ أخفقت “بلفاست” في الالتزام بهذه المعاهدة، ربما تشتعل حرب أهلية جديدة بين شقي الجزيرة الأيرلندية.

ثمة معادلة مستحيلة الحل في العلاقة بين المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي تدفع ثمنها “بلفاست” الآن.. فالمملكة تريد الاستقلال عن التكتل الأوروبي، وفي ذات الوقت تريد إبقاء الحدود مفتوحة بين أيرلندا الشمالية وجمهورية أيرلندا.. وهذا يعني واقعيا إبقاء جزء من المملكة في الاتحاد، ليتمتع بمزايا السوق الأوروبية الموحدة ولا يخضع لقوانين التكتل.

وكنتيجة لاستعصاء حل هذه المعادلة، فاز مؤخرا في الانتخابات العامة لأيرلندا الشمالية حزب “شين فين” المنادي بوحدة شقي الجزيرة الأيرلندية تحت مظلة الاتحاد الأوروبي.. وفوز هذا الحزب وضع الحكومة البريطانية في موقف محرج، ودفع بها إلى إعداد مشروع قانون يسمح للندن بـ”الانقلاب” على اتفاق “بريكست”.. ولكن هل يكمن الحل في انتهاك الاتفاق، ومَن قال إن لندن ستجرؤ على تنفيذ مثل هذا “الانقلاب” أصلا؟

في اسكتلندا، تستغل رئيسة الوزراء نيكولا ستيرجن وحزبها عثرات “بريكست” لتحشد من أجل إجراء استفتاء للانفصال عن بريطانيا في أكتوبر 2023.

الحزب القومي الاسكتلندي الحاكم يسعى إلى الانفصال مع لندن منذ سنوات طويلة، وما فشل في تحقيقه عام 2014 يراه اليوم ممكنا بعد الخروج من الاتحاد الأوروبي.

القانون يقول إن اسكتلندا لا يمكن أن تنظم استفتاءً للانفصال عن بريطانيا إلا بعد مرور أربعة عقود على استفتاء 2014، وبموافقة حكومة لندن وبرلمانها أيضا.. ولكن “ستيرجن” بدأت تضغط باتجاه الحصول على قرار من المحكمة العليا يجعل موافقة أو رفض بوريس جونسون وحكومته على الاستفتاء لا قيمة له.

كثيرة هي التقارير واستطلاعات الرأي، التي تتوقع انتهاء الوحدة الاسكتلندية البريطانية في غضون سنوات.. جميعها تؤكد أن “بريكست” هو السبب المباشر، ولكنها لا تقدم أي تصور أو أي ملامح لمستقبل اسكتلندا بعد طلاق لندن وإدنبرة.. كما أنها لا تقول إن بروكسل ستفتح أبوابها على مصاريعها أمام ستيرجن “المستقلة”.

في تحديات الحدود، التي خلقها الخروج، للمملكة المتحدة أيضا، هناك أزمة المهاجرين غير الشرعيين القادمين عبر بحر المانش. الفرنسيون فتحوا شواطئهم أمام الراغبين في العبور إلى الضفة البريطانية، وبات على حكومة لندن أن تخلق سبلا لردعهم ومنعهم من الوصول إلى السواحل الجنوبية للمملكة المتحدة.

على مدار أكثر من عام لم تنجح حكومة بوريس جونسون حتى في وقف تزايد أعداد هؤلاء المهاجرين.. وعندما تقطعت بها السبل وفشلت كل محاولاتها قررت ترحيل المهاجرين إلى دولة رواندا في قارة أفريقيا.. ولكن بعدما هيأت لندن أول رحلة جاء قرار من المحكمة الأوروبية بمنع إقلاع الطائرة. 

حكومة المحافظين خصصت مليارات الدولارات لإقامة المهاجرين غير الشرعيين في البلد الأفريقي، ولكنها فشلت في إرسال أقل من عشرة أشخاص إلى هناك.. وعندما فشلت أدرك البريطانيون مجددا أن “استقلالهم” عن الاتحاد الأوروبي لم يكتمل بعد.. تماما كما حدث في قطاعات اقتصادية وخدمية عدة.

“الاستقلال” المنقوص والاضطراب، الذي خلقه الخروج، في العديد من جوانب الحياة.. هما ما يحرك ندم البريطانيين، الذين صوّتوا بنعم في استفتاء عام 2016.

وعندما اجتمع هذا الندم مع ظروف داخلية وخارجية صعّبت احتواء تداعيات انفصال لندن وبروكسل، عادت التساؤلات حول تلك الوعود التي قطعها المحافظون للناس بحياة أكثر رفاهية في الخدمات، ووفرة في فرص العمل بعد “بريكست”.

حكومة “جونسون” اليوم ملزمة بتحويل الندم إلى تفاؤل إزاء مستقبل البلاد بعد “بريكست”.. عليها أن تضمن لهم بقاء المملكة المتحدة موحدة، واستمرار السلام في الجزيرة الأيرلندية، وعدم اكتواء الناس بالمعيشة وكلفتها، وانتهاء طوابير الانتظار على المستشفيات، واختفاء نقص اليد العاملة في قطاعات عدة للأبد، وعدم تراجع قيمة الجنيه إلى ما دون اليورو بعد أشهر أو بضع سنوات.

ليس هناك وقت طويل أمام المحافظين لتحقيق كل ذلك.. فالانتخابات العامة على بعد عامين ونصف العام، والثقة بالحزب تحتاج أصلا إلى ترميم بعد “فضائح الحفلات”.. رغم ذلك لا تعرف السياسة المستحيل، وكما يقول البطل العالمي محمد علي كلاي: “الفارق بين المستحيل والممكن يتوقف على عزيمة المرء وإصراره”.

نقلا عن العين الإخبارية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى