اخترنا لكم

بندر إن حكى!

حسن المصطفى


رغم أنه كان محاطاً بالأضواء من كل صوب، كيف لا، وهو الشخصية التي نالت اهتمام الصديق والعدو، وأثارت الكثير من الأسئلة، ونسجت القصص، وحفزت الخيال غير المتناهي، عندما تبحث الصحافة عن أسباب غيابه، أو ظهوره المفاجئ!

في واشنطن، كان الشخص الذي فتح له أكثر من رئيس إمريكي أبواب البيت الأبيض، وكأنه ليس سفيراً فحسب، بل، حظي بما لم يحصل عليه رؤساء جمهوريات ودول عدة.

صحيح أنه يمثل دولة مهمة ومركزية، ألا وهي المملكة العربية السعودية، بثقلها النفطي والاقتصادي والديني والسياسي، إلا أنه أيضاً، كان شخصية فريدة في تكوينها الشخصي، وطريقة تفكيرها، وأسلوب عملها، ذلك هو إبن “الخيزران”، السيدة الجليلة التي ربته صغيراً، واعتنت به حتى اشتد عوده، فكان بندر بن سلطان بن عبد العزيز آل سعود، من حظي بثقة الراحل الملك فهد بن عبد العزيز، فعينه سفيراً في الولايات المتحدة، وأسند إليه العديد من الملفات المهمة والحساسة، التي لا تخص بلاد العم سام وحدها، بل تعدتها إلى العلاقات السعودية الخارجية مع أكثر من دولة، وصولاً إلى مهام تتعلق بالأمن في الشرق الأوسط، وعملية السلام الفلسطينية – الإسرائيلة.

روح المغامرة

ينقل وليام سيمبسون، في كتابه “الأمير”، العبارة التالية عن بندر بن سلطان: “أحبُ انعدام الأمن الذي يحيط بي، إذا جرحتني أنزف، وإذا وجهت إليَّ كلاماً نابياً، أنزعجُ وأتألم. وإذا كان عليَّ أن أواجه الخطر أو التحدث، فإننا جميعاً مدربون على الخروج سالمين وفعل ما يجب علينا فعله.. إنني لست آمناً، وغير آمن، لكنني لا أسمح لانعدام الأمن الذي يحيط بي بأن يمنعني من عمل ما يجب عمله”.

الجُملُ أعلاه بمثابة مفاتيح أساسية لفهم شخصية الأمير بندر بن سلطان، وهي تفصح عن شخصية تختلط فيها روح الإقدام، بالمغامرة، بالحساسية الشديدة، والعزلة، والغموض، وأيضاً مواجهة التحديات الكبيرة بشجاعة ووضوح ومباشرة، دون خوف أو تردد أو قلق.

إثارة الصمت

عندما كان الأمير يغيب كان الجميع يتساءل: أين بندر، ولماذا لم يكن هنا، وماذا عساه يفعل؟
مراكش، المدينة الحمراء، التي يعشقها بندر، كانت دائماً ما يرخي لها روحه، يجلس في دارته، محاطاً ببعض الأصحاب والخلان الأوفياء، بعيداً عن الضجيج، مؤثراً القراءة والمطالعة والنقاشات التي توقد الكثير من الأسئلة، أو الاستمتاع بالموسيقى وشمس “النخيل”، ومتابعة مجريات الأحداث بصمت ودون أن يغرق في تفاصيلها.

تراه هناك، صحبة عائلته، وربما تناول العشاء إلى مائدة واحدة مع أصدقاء: رحاب مسعود، عثمان العمير، وأخوه الأمير سلمان بن سلطان، ورفاقٌ آخرون.

هذا السكون المراكشي، كان يثير الكثير من الفضول، عن ماذا يخطط له من اعتبره اللوبي الإسرائيلي (اليهودي) في الولايات المتحدة، أكبر منافس له؛ ومن استل طائرات “الأواكس” بدهاء من فم الأسد، رغم معارضة تل أبيب وأنصارها، وجعل السعودية تربح الصفقة!
لم يكن بندر بن سلطان يخطط لشيء كما يظن كُثر، إلا أن هذه طبيعة الأجواء التي تثيرها الشخصيات الإشكالية والمؤثرة، مثل الأمير بندر.
الصمت، كان جلباباً أثيراً لبندر، خصوصاً مع الإعلام العربي، حيث نادراً ما يجري حوارات متلفزة أو مكتوبة.

مثلاً، الصمتُ كُسرَ في شباط (فبراير) 2016، عندما نشرت صحيفة “إيلاف” الإلكترونية، مقالاً للأمير بندر بن سلطان، علق فيه على الاتفاق النووي الذي عقده الرئيس الإميركي السابق باراك أوباما مع حكومة الرئيس الإيراني حسن روحاني، قال فيه “أما الآن، وبكل تأكيد، أنا أكثر اقتناعًا من أي وقت مضى بأن صديقي العزيز، الثعلب القديم هنري كيسنجر، كان مصيبًا حين قال: على أعداء أميركا أن يخشوا أميركا، لكن على أصدقائها أن يخشوها أكثر”.

ولأن من عبر عن رأيه ليس بالسياسي الثرثار الذي تجده كل يوم على منبر، كان لموقف بندر أصداء واسعة حينها، وتناقلته أكثر من وجهة عربية ودولية.

الوثائقي

ما سبق يقود إلى الفيلم الوثائقي الذي عرضته قناة “العربية”، على مدى ثلاثة أجزاء، تحدث فيه الرئيس السابق لجهاز المخابرات السعودي، عن موقف المملكة من عملية السلام في الشرق الأوسط، وكيف كانت الرياض سخية على صعد عدة، إلا أن المشكلة كانت في “الفرص المهدورة”، التي لن تحسن القيادة الفلسطينية الاستفادة منها.

بندر بن سلطان تحدث في الوثائقي، كشاهدٍ على أحداث هامة، كان جزءاً منها. وهو لم يخرج عن صمته، إلا بعد أن وجد هنالك لغة شتائمية نابية، تجاه دول الخليج العربية، إثر إعلان الإمارات والبحرين إقامة علاقات دبلوماسية مع إسرائيل، حيث دُشنت حملة من التحريض والتخوين والسباب تجاه القيادات السياسية الخليجية، أخذت طابعاً استعلائياً، عنصرياً، فيه فوقية، وبعدٌ عن الموضوعية والمناقبية الأخلاقية. وهذا ما يفسر السبب الذي دفع شخصية دائماً ما تفضلُ البعد عن “الضجيج”، أن يفتح نافذة يروي من خلالها جزءاً من سيرة سياسية مرة وموجعة!

استعادة الزمام

أطل بندر بن سلطان من أمام مكتبه، في مجلس تراثي، بني على الطراز النجدي، وخلفه صورة الملك المؤسس عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود، التي التقطها له الكابتن وليام شكسبير، وتصطف على الجوانب مجموعة من البنادق، تزين الحائط.
لم يكن مشهد الأمير اعتباطياً، فالمكان بتفاصيله له حضوره ودلالته. إنها العودة إلى التاريخ، إلى اللبنة الأساس، والصورة الأولى، ومن هنا سيبدأ السردُ عن دعم سعودي لفلسطين، رافق الدولة السعودية الثالثة، منذ إعلانها، وحتى الساعة.

تلك البنادق والخناجر، كانت شبيهة بمثيلاتها التي استخدمها أفرادٌ من الجيش السعودي الفتي والناشئ، أثناء قتالهم العصابات اليهودية، التي كانت تمارس القتل والتنكيل والإرهاب تجاه الفلسطينيين وتشردهم من مدنهم وقراهم.

تحدث بندر عن حق الفلسطينيين في “المقاومة”، وأنهم يمتلكون “قضية عادلة”، إلا أن المعضلة تكمن في “القيادات”، التي كانت كثير منها مجرد “محامين فاشلين”، على عكس الإسرائيليين الذين هم برأيه كانت قضيتهم “غير عادلة”، إلا أنهم كانوا “محامين ناجحين”!
أراد السفير السعودي السابق في واشنطن، أن يعيد “السردية التاريخية” إلى مكانها الصحيح، بعيداً عن التشويه والمزايدات والمتاجرة، التي لم تنتج إلا مزيداً من ضياع الحق الفلسطيني، يوماً بعد آخر.

السعوديون أولاً

من أهم ما يلفتُ الانتباه في حديث الأمين العام السابق لمجلس الأمن الوطني السعودي بندر بن سلطان، تركيزه على مخاطبة الشعب السعودي، وتحديداً الجيل الجديد من الفتيات والشبان، وذلك بهدف تعريفهم بجزء من تاريخ يغيب عن كثيرين منهم، لأنهم لم يعيشوه.

الأمير أيضاً يعي حجم الدعاية “المضللة” تجاه السعودية ودول الخليج، والتشويه الذي عُمل على تعميمه، وهو بلا شك له تأثير على مجاميع من المواطنين في الخليج، خصوصاً مع العاطفة الجياشة التي تقف مناصرة للشعب الفلسطيني وحقوقه المشروعة في إقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس. وهي العاطفة التي قد تدفع تجاه تصديق ما يتم نسجه من قصص مبتورة، أو أحداث مختلقة، أو معلومات منقوصه؛ ومن هنا، كان لا بد من إيضاح الحقائق، كي لا تكون هنالك أكوابٌ مملوءة بالسم!

المناقبية في الاختلاف

رغم ما تجده من نبرة فيها مزيج من الحسرة والمرارة والغضب، في وثائقي “مع بندر بن سلطان”، إلا أن الأمير كان منصفاً في مواقفه تجاه الآخرين، حتى وإن اختلف معهم في الآراء.

في الجزء الثالث، تطرق بندر بن سلطان، لقصته مع الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد، وامتدحه في أنه شخص يلتزم بكلمته، ولا يخلف وعده حينما يعطيه للمملكة. وربما هي الصفة التي لم يتحلّ بها نجله الرئيس بشار الأسد، والتي كانت أحد الأسباب الرئيسة لخلاف الرياض مع دمشق، هو عدم إلتزام الرئيس السوري بما يتم الاتفاق عليه من قرارات مشتركة، ليعود ويخلفها من جديد.

بندر، الذي يعرف جيداً عمق الخلاف السعودي – المصري، إبان فترة حكم الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، ذكر الرئيس المصري باحترام كبير، خلال الجزء الأول من الوثائقي، وأشاد بشيء من سياساته، دون أن يدفعه موقف عبد الناصر السلبي حينها، إلى مهاجمته أو النيل منه.

هذا السلوك الذي يترفع عن الصغائر، يذكرنا بقصة رواها لي دبلوماسي سعودي رفيع، خدم لسنوات في الخارجية، حيث يقول إنه ذات مرة، وأثناء عمق اشتداد الأزمة بين الرياض والقاهرة، وبينما كان الحضور في مجلس الراحل الملك فيصل بن عبد العزيز، يتبادلون أطراف الحديث، تكلم أحدهم بشيء من الجرأة على عائلة الرئيس جمال عبد الناصر، فما كان من الملك فيصل إلا أن غضب ونهره بشده وقرعه، لأن الخلاف ذو طابع سياسي وأمني، ولا يجوز لأحد أن يحوله إلى مهاترات تمس الأعراض والأنساب.

هذا درسٌ مهمٌ قدمه الأمير بندر بن سلطان، حريٌ بكثير من النشطاء في وسائل التواصل الاجتماعي، أو الكتاب والمعلقين، أن يتأملوه ملياً. فالدفاع عن القضايا العادلة، أو السياسات الوطنية، يجب أن يكون بالمعلومات والوقائع، والتحليل السياسي الرصين، والاقناع، وبلغة عقلانية، تروم الإصلاح، وتبتعد عن المناكفات والشقاق.

وللحديث تتمة الأسبوع القادم.

*نقلاً عن صحيفة “النهار

زر الذهاب إلى الأعلى