اخترنا لكم

تأملات في المشهد العراقي


بالنسبة للعراقيين على امتداد جغرافيتهم وتنوع انتماءاتهم، فقد باتوا يتابعون ويترقبون من سيحوز هذا الكرسي ومن يتربع على مائدة مستطيلة أو مستديرة من الواصلين إلى مواقع القرار بحكم نتيجة الانتخابات الأخيرة.

من حيث الشكل، الانتخابات هي هي: كتل، تيارات، أحزاب، مستقلون، وقادة لشرائح معينة تسير ضمن خطوط الطول والعرض، التي يرسمونها لهم للوصول إلى مبتغاهم.

الإنسان العراقي، سواء الذي اقترع بصوته، أو ذاك الذي اقترع بالإحجام عن منح صوته لأي مرشح أو تيار، قال كلمته بوحي قناعته، أو بهدي التزاماته.

41% نسبة المقترعين المعلنة رسميا، ثمة من يتحدث عن 34% فقط، في جميع الأحوال هو اقتراع بنظر من أدلى بصوته. 

54% ممن أحجموا عن المشاركة، وفق البيانات الرسمية، صوّتوا أيضا عن سابق وعي وإدراك بأنهم متصالحون مع ذواتهم ومطالبهم بالانعتاق من رِبقة المليشيات وظاهرة الاستلاب والتبعية والارتهان.

بهذه الممارسة الواعية صار صوت الإنسان العراقي قيمة إنسانية ووطنية.. لم يعد سلعة يرتبها صاحب الحانوت على رفوف العرض كيفما أراد، ولا معياراً لتَكَدّس الأصوات، ولا زينة للتباهي.. اكتسب قيمة جوهره، حيث أعلى كفة تيار وأخفض كفة آخر.. فرض الإنسان العراقي حضوره في المعادلة الداخلية كطرف قادر ومؤثر في عملية تشكيل أجسام السلطة، مثلما هو قادر على منع أجسام أخرى من الوصول إلى مرادها بفعل استقلالية خياراته.

إرهاصات المشهد، الذي رسمته مجريات الانتخابات ونتائجها، تنبئ بمرحلة عراقية، الأرجح أن يتم خلالها تجاوز أحزاب السلطة وسلطة الأحزاب تدريجيا، سلوك يحتمل وجهين، بقدر ما تنطوي عليه مثل هذه الممارسة المتوقعة من عوائد قيّمة، فإنها تحمل مخاطر جمّة في حال لم تكن ضمن إطار تشاركي تفاعلي لكل القوى والتيارات بعيداً عن الولاءات المتنافرة والمحاصصات القديمة.

وحدهم أولئك المهزومون، وفق حساباتهم الذاتية، أعلوا الصوت الرافض لنتائج الانتخابات، تمهيدا، كما يبدو، لرفض مخرجاتها.

حضرت في مساحات وعي هؤلاء الرافضين ما يتطلعون إليه وما ينشدونه، أو بالأحرى ما خططوا له من عملية انتخابية تصب نتائجها في مخزون سلطتهم بمختلف حواملها.

غاب عنهم جوهر “الصدمة”، التي تلقوها، ألا وهو الإنسان العراقي المتسلح بوعيه الوطني الذاتي، وبآماله المتعثرة بسبب نهج وسياسة ممن افتُرض أنهم الأمناء على حاضره ومستقبله.

هزيمة من هُزِم أو من تراجع عن مراكز متقدمة، تتناظر مع نجاح مَن حقق نتائج متقدمة أو مفاجئة، في المنظور ذاته يعود الدور الرئيسي للهزيمة أو للتقدم إلى الناخب العراقي، في البيئة الأولى رفض الناخب العراقي تحمل وزْر المسؤولية عن تبنيه مرشحين أثبتت التجارب السابقة أنهم غير أكفاء فأحجَمْ، مثال ذلك تحالف الفتح الذي خسر 33 مقعدا من مقاعده في البرلمان السابق، وفي البيئة الثانية تبنّى المقترع العراقي بقناعة نهجَ مرشحيه وتياره فأقدمْ، مثال ذلك التيار الصدري متصدر قائمة الفائزين بـ73 مقعدا.

ملامح الخارطة، التي صاغتها نتائج الانتخابات، لا تخلو من إشارات إلى صعوبة اليوم التالي، حيث تتكثف اللقاءات والمفاوضات والمساومات وصولا إلى تسويات لن تكون سهلة على طريق الوصول إلى تحديد شخصيات الرئاسات الثلاث.

إحجام الناخبين بهذه النسبة هو تصويت بالرفض للمشهد السابق بكل سياقاته ورموزه وتحالفاته.

المعيار الجديد لصلاحية وقبول الطبقة السياسية العتيدة يكمن في عدم تجاهل الحواضن الاجتماعية والحزبية بعد أن اتخذت خيارات منسجمة مع تطلعاتها.

الانتخابات العراقية ونتائجها وكل ما قيل فيها أسهمت في تحقيق عدد من الأهداف لمصلحة الإنسان العراقي ولمصلحة الدولة العراقية، على صعيد الإنسان العراقي قطعت باليقين أن وعيه يتجدد ويتبلور وباتت الغالبية تمسك قرارها بإرادة حرة متفلتة من قبضة الارتهانات الطائفية وغيرها.. على صعيد الدولة، برهن رئيس الوزراء المنتهية ولايته مصطفى الكاظمي أن جميع التحديات، بما فيها الأمنيّة الكبيرة، لا يمكنها نسف أو تأخير استحقاق وطني طالما توفرت الإرادة المخلصة لخدمة الدولة-الوطن.

أيًّا تكن خارطة التحالفات المقبلة بين الكتل المتصدرة لنتائج الانتخابات، تبقى العبرة في استعداد الجميع للبناء عليها وبلورة مشروع وطني عام يؤسس لإحداث قطيعة مع عقود من الزمن عاش خلالها العراق والعراقيون متأرجحين بين موجات من المد والجزر وعدم الاستقرار، عقود أغرقتهم في متاهات أثّرت بشكل كبير على العراق مجتمعا ودولة ودورا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى