تركيا و إزدهار النظام الإستبدادي
وجه مجلس الأمم المتحدة لحقوق الإنسان انتقادات حادة للحكومة التركية بسبب انتهاكات في مجال حقوق الإنسان، معربا عن قلقه من قانون مكافحة الإرهاب الذي سُن منذ وقت قريب، والذي يُبقي على العديد من القيود المفروضة في حالات الطوارئ التي من المرجح أن يستمر إضرارها بحقوق الإنسان والحريات الأساسية.
جاءت هذه الانتقادات إثر اجتماع الدول الأعضاء في مجلس الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، الثلاثاء، في جنيف، لمناقشة سجل تركيا في مجال حقوق الإنسان في السنوات الخمس الأخيرة، وهي الفترة التي شددت فيها حكومة حزب العدالة والتنمية قبضتها على وسائل الإعلام والصحافيين والمعارضين، وسط توقعات كبيرة بإدانة دولية لنظام الرئيس رجب طيب أردوغان، بسبب سياساته الداخلية والخارجية.
ولاحظ خبراء الأمم المتحدة أن طبيعة المراسيم الصادرة أثناء حالة الطوارئ في البلد، التعسفية والكاسحة قد شكّلت انتهاكات جسيمة للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية يقوم بها النظام الذي يسير بتركيا نحو قائمة الدول المارقة عن السرب الدولي بخرقه لاتفاقيات حقوق الإنسان وبقوانين الإرهاب التي سنها إثر الانقلاب الفاشل في 2016، كما بسياسته الخارجية التي أصبحت مترابطة مع الوضع الداخلي، وكلها تدار من دفة الرئيس مطلق الصلاحيات.
نظام استبدادي
“الحيز المتاح للمعارضة في تركيا ضاق في شكل كبير، بسبب إعلان حالات الطوارئ، حيث يُلقى بالصحافيين في السجون بتهمة ارتكاب جرائم إرهاب”
المفوضية السامية لحقوق الإنسان
على مدى أكثر من 15 عاما، كان أردوغان صاحب الكلمة العليا في البلاد، رئيسا للوزراء ثم رئيسا، فرئيسا بصلاحيات مطلقة منذ استفتاء التعديل الدستوري في 2017. وعلى مدى هذه السنوات كانت تركيا تشهد تحولات خرجت إلى العلن بعد 2011، في علاقة بالتحولات في السياسة الخارجية لأردوغان.
سبقت تحولات السياسة الخارجية التغييرات في الداخل، والتي كانت نقطتها الفاصلة عملية الانقلاب الفاشل في صيف 2016، والتي شنّ على إثرها أردوغان عملية تطهير كبرى غيرت ملامح البلاد ومؤسساتها وملأت السجون بالمعارضين والصحافيين، وأطلقت يد حزب العادلة والتنمية، وتحديدا أيدي أعضائه المقربين من أردوغان وعائلته، ليمسكوا بخناق البلاد.
وكانت النتيجة تحول تركيا من دولة حكمها العسكر عبر سلسلة من الانقلابات إلى دولة ذات نظام شمولي بملامح ثيوقراطية، سلطت حكومتها سيفها على كل من يعارض أو يبدي قلقا من الصورة المتدهورة التي ترسمها التقارير الدولية عن تركيا، والمكانة المتدنية التي وصلت إليها نتيجة ممارسات النظام بعد أن كانت في صدارة الدول على عدة مستويات.
وشهدت تركيا خلال تلك الفترة محاولة انقلاب فاشلة في يوليو 2016، وهي عملية أعلنت على إثرها الحكومة التركية حالة الطوارئ للسيطرة على الوضع بعد أن زعمت بأنها مدبرة من قبل أتباع الداعية الإسلامي في المنفى بالولايات المتحدة فتح الله غولن.
ومنذ تلك الحادثة شن نظام أردوغان حملة شرسة على وسائل الإعلام المحلية المعارضة وحتى الدولية وتم سجن عشرات الآلاف من المعارضين والعشرات من الصحافيين والموظفين حيث يُتهم هؤلاء بالتورط في عملية الانقلاب الفاشلة.
وأثار اعتقال السلطات التركية لصحافيين أتراك وأوروبيين ونشطاء في مجال حقوق الإنسان من المستقلين والتابعين لمنظمات دولية الانتباه عالميا، خصوصا أن أغلب التهم التي تم توجيهها إليهم متعلقة بـ”الإرهاب” أو “الانقلاب” أو “الانتماء إلى حركة فتح الله غولن”.
وتمت عمليات الاعتقال تحت طائلة حالة الطوارئ التي أعلن عنها إثر الانقلاب، ثم تم تعويضها بقانون مكافحة الإرهاب. وقد جاء في التقرير الأممي “لاحظ المقرر الخاص المعني بمسألة التعذيب أن الحكومة قد أعلنت حالة الطوارئ عقب الانقلاب الفاشل، وأعلنت عدم تقيدها بالعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية فعليا ابتداء من تاريخ 2 أغسطس 2016، وعدم تقيدها بالاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان قبل ذلك التاريخ”.
وأضاف المقرر الخاص أن “تركيا اعتمدت سلسلة من المراسيم المتمتعة بقوة القانون مسّت بحقوق الإنسان وبالضمانات الإجرائية للأفراد والجماعات والمنظمات المشتبه في تورطهم في محاولة الانقلاب أو في حركة أتباع غولن أو في غيرهما من الأنشطة التي تُعتبر ذات صلة بالإرهاب”.
كما لاحظ المراقبون الأمميون أن “النظام سنّ 22 مرسوما خاصا بالطوارئ في الفترة التي فصلت بين تاريخ فرض حالة الطوارئ في 21 يوليو 2016 وبين تاريخ 22 ديسمبر 2017، على نحو تجاوز التمحيص البرلماني والتف على سبيل الطعن الداخلي لدى المحكمة الدستورية”.
عكست هذه المراسيم خرقا واضحا للضمانات الأساسية لحقوق الإنسان والتزامات تركيا بموجب القانون الدولي. وترسخ هذا الخرق بعد التعديلات الدستورية التي منحت صلاحيات أكبر للسلطة التنفيذية، حيث جاء في التقرير الأممي أن التعديل الدستوري “سمح للرئيس بتوسيع نطاق صلاحياته التنفيذية داخل الجهازين التشريعي والقضائي بمنحه سلطة سن القوانين بالالتفاف على البرلمان والسيطرة على التعيينات وإجراءات الرقابة في الجهاز القضائي”.
ومنحت التعديلات الرئيس وحده صلاحية إعلان حالة الطوارئ وإصدار مراسيم رئاسية لا تخضع للمراجعة القضائية. وبناء عليه، أعربت المفوضية السامية لحقوق الإنسان عن القلق لأن تكرار إصدار قرارات تمديد حالة الطوارئ قد تكون له تبعات دائمة على النسيج المؤسسي والاقتصادي الاجتماعي في تركيا.
وقال المقرر الخاص المعني بحرية التعبير إن لمراسيم تمديد حالة الطوارئ آثارا بعيدة المدى وإنها تمنح سلطات تقديرية واسعة لعدم التقيد بالالتزامات المتعلقة بحقوق الإنسان، دون توفير قنوات ملائمة للمراجعة والطعن القضائيين.
وتخضع تركيا بموجب “الاستعراض الدوري الشامل” الذي ينشر كل 5 أعوام عن الدول الأعضاء في الأمم المتحدة وعددها 193، لتدقيق ومراجعة مدى التزامها بالمعاهدات الأساسية لحقوق الإنسان والتي تغطي مجموعة متنوعة من الموضوعات بما في ذلك جرائم الكراهية وحقوق الأقليات والمثليون ومزدوجو الميل الجنسي ومغايرو الهوية الجنسانية وحريات الصحافة.
وأعرب المقرر الخاص عن قلقه من القانون الجديد (رقم 6722) الذي يمنح قوات مكافحة الإرهاب الحصانة من المقاضاة على الأفعال التي تُرتكب في سياق عملياتها، لافتا إلى أن سياق هذه العمليات غير محدد.
كما شدّد خبراء الأمم المتحدة على قلقهم من استخدام تهم الإرهاب بغرض استهداف الممارسة المشروعة لحرية التعبير وحرية تكوين الجمعيات. وقال المقرر الخاص المعني بحرية التعبير إن الحيّز المتاح للتعددية السياسية ما فتئ يضيق وأحزاب المعارضة عرضة لتوجيه اتهامات إليها ذات صلة بالإرهاب.
وأوصى بجعل التشريعات الوطنية المتعلقة بالتشهير ومكافحة الإرهاب تتمشى مع المعايير الدولية، وحث تركيا على استعراض قانون مكافحة الإرهاب سريعا للتأكد من أن تدابير مكافحة الإرهاب تتوافق مع المادة 19 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية ومراجعة قانون العقوبات الذي جرّم التشهير بالمسؤولين الحكوميين وبرئيس الدولة.
وأعربت لجنة مناهضة التعذيب عن بالغ القلق إزاء استمرار ورود تقارير كثيرة ومتّسقة عما يتعرض له المدافعون عن حقوق الإنسان والصحافيون والأطباء الذين قدّموا المساعدة إلى ضحايا التعذيب من تخويف ومضايقة وعنف ضمن وضع تزيد من قتامته سيطرة الرئيس رجب طيب أردوغان والدائرة المقربة منه على اقتصاد البلاد، بالإضافة إلى وسائل الإعلام، ومؤسسات الدولة التي تم طرد موظفيها وتعوضهم بموالين للنظام.
ويؤكد ذلك تقرير منظمة الشفافية الدولية، الذي صدر عشية انعقاد مجلس حقوق الإنسان في جنيف. وقد صنف التقرير تركيا في المرتبة الـ91، على مؤشـر مـدركات الفسـاد للعـام 2019. وقد جاءت خلاصة تقرير منظمة الشفافية الدولية متوافقة مع تقرير مجلس حقوق الإنسان.
وقالت أويا أوز أرسلان، رئيسة فرع المنظمة الدولية بإسطنبول، إن “تركيا تعيش مرحلة حرجة للغاية بخصوص الفساد”، معتبرة أن ترتيب البلاد في المؤشر “هو الأسوأ على مر تاريخ تركيا، وهذا الوضع يعزز من المخاوف المتعلقة بسوء توزيع الموارد العامة للدولة، ويخلق تفاوتا اجتماعيا”.
وعن أسباب هذا التراجع ذكر بيان فرع المنظمة الدولية للشفافية بإسطنبول أنها تتمثل في “جمع كل السلطات بيد واحدة بشكل يشبه الأنظمة الاستبدادية، وعدم استقلال القضاء، وانتهاك سيادة القانون، وفقد المؤسسات العامة وخاصة التنظيمية والرقابية منها لدورها الحقيقي، إلى جانب فقد البرلمان لقدرته على المساءلة والمحاسبة”.
وأفاد البيان كذلك بأن “أمن العقاب وضعف قوة القضاء في مكافحة الفساد، من أسباب انخفاض تصنيف تركيا”، وهو ذات الأمر الذي يؤكده تقرير مجلس الأمن حول حقوق الإنسان لافتا إلى أن تركيا تحولت إلى دولة ذات نظام شمولي، ترسخ منذ عملية الانقلاب الفاشل في صيف 2016.
وتتفق تقارير أخرى مع ما سبق، حيث صنفت لجنة حماية الصحافيين، وهي منظمة دولية مستقلة، تركيا كثاني أكثر مكان يتم فيه قمع وترهيب الصحافيين في العالم بعد الصين. وأشارت المنظمة إلى أن تركيا سجنت 48 صحافيا حتى العام 2019 فيما ينتظر العشرات من الصحافيين غير المسجونين محاكمة أولية أو استئنافا، فيما آخرون حكموا غيابيا ومهددون بالتوقيف إذا عادوا إلى بلدهم.
كما تطرق تقرير للمعهد الدولي للصحافة قبل أشهر إلى انتهاكات جسيمة في أنقرة تطول حرية التعبير وحقوق الإنسان، مشيرا إلى أن وراء الأرقام تكمن قصة الانتهاكات الجسيمة للحقوق الأساسية واحتجاز العشرات من الصحافيين لشهور وأحيانا لسنوات.
وقال المعهد إن عددا قياسيا عالميا من الصحافيين تجاوز 120 مازالوا مسجونين في تركيا، كما أن وضع الإعلام في هذا البلد لم يتحسن منذ إنهاء حالة الطوارئ العام الماضي بعد استمرارها عامين.
وما زال أكثر من 77 ألف شخص محتجزين في انتظار محاكماتهم، فيما ذكر المعهد الدولي للصحافة في تقرير جديد أنه منذ محاولة الانقلاب واجه المئات من الصحافيين محاكمات لتهم معظمها مرتبطة بالإرهاب، مشيرا إلى أن عدد الصحافيين المسجونين انخفض بعدما تجاوز 160.
وكانت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان قد أعلنت في يونيو أنها تسلمت 546 شكوى حول التوقيف المؤقت لقضاة في تركيا بعد الانقلاب الفاشل. كما انتقدت المفوضية الأوروبية في نفس الشهر تدهور الأوضاع في المحاكم والسجون والاقتصاد في تركيا، مشددة على أن ذلك سيكون سببا في تلاشي آمال أنقرة في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.
وذكرت رئيسة مؤسسة حقوق الإنسان في تركيا، شبنيم كورور فينكانسي، في حديثها أمام لجنة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، أن انتهاكات الحقوق أصبحت شائعة في تركيا لأن “جميع الضمانات الإجرائية قد أهملت”.