صفر معلومات و100 في المائة تحليلات، كما قال أحد المعلقين الغربيين. هذا ما يمكن أن يوصف به تقرير الـ«سي آي إيه» عن مقتل خاشقجي، فقد احتوى على مزيج من التحليلات والتصورات غير المستندة على أي حقائق واضحة. التقرير لا يمكن أن يصمد أمام أي اختبار حقيقي، حتى الذين احتفلوا بالتقرير من الصعب أن يزعموا بأنهم حصلوا على وثيقة حقيقية. إنها مجرد تقديرات صحافية طوقت لوقت طويل بالسرية.
كل هذا يقودنا لنتيجة منطقية وهي أن كل التسريبات والمعلومات السرية عن قضية خاشقجي التي مررت لوسائل إعلام على مدار ثلاثة أعوام، كانت قائمة من الأساس على مجرد تكهنات. ومن هنا نفهم كيف تم تسييس القضية على نطاق واسع لتحقيق أهداف حزبية وآيديولوجية في المقام الأول.
قضية خاشقجي ليست القضية الوحيدة التي تم تسريب كمية من المعلومات غير الصحيحة عنها، ولكن لنتذكر مثلا قضية العلاقة بين إدارة ترمب وعملاء روس، حيث قامت صحف معادية للرئيس الأميركي السابق بنشر معلومات مسربة من الاستخبارات الأميركية عن تواطؤ سري بين حملة ترمب والحكومة الروسية، ما جعل الرئيس السابق للاستخبارات جون بيرنان يتهم ترمب علنياً بالخيانة والعمالة. القصة بعد ذلك معروفة حيث فتح تحقيق موسع قام به المحقق الخاص روبرت مولر كلف ما يقارب 50 مليون دولار، وساق عددا كبيرا للتحقيقات وكشف في النهاية براءة ترمب من كل هذه الاتهامات التي انطلقت من الاستخبارات لدوافع سياسية محضة.
قبل حتى أن يبدأ جاريد كوشنر بتسلم مهامه حتى تم تسريب معلومات من الاستخبارات تم الكشف عنها بعد ذلك أنها مجرد تحليلات لا تستند على أي حقائق. فقد قالت المعلومات إنه شكّل قناة اتصال سرية مع الروس في المرحلة الانتقالية لتبادل المعلومات. القصة كلها كانت تحليلية مختلقة ومرة أخرى لتحقيق أهداف سياسية محضة بأدوات استخباراتية. لقد تم توظيفها ليس من أجل قوى خارجية، ولكن حتى ضد من يسكن البيت الأبيض نفسه في بعض الأحيان.
ولهذا أثارت مثل تلك التحليلات والتخمينات انتقادات رؤساء أميركيين جمهوريين وديمقراطيين مثل نيكسون الذي أطلق على هؤلاء المحللين مجموعة من المهرجين، والرئيس ليندون جونسون الذي تساءل مرارا عن ماذا يفعل هؤلاء المحللون في مبنى الـ«سي آي إيه». ولنتذكر أن الرئيس ترومان الذي تأسست الاستخبارات الأميركية في عهده انتقدها لاحقاً في مقال شهير في الواشنطن بوست نشره عام 1963، حيث كتب عن أهم التصرفات التي يجب تصحيحها ومن أبرزها استخدام الاستخبارات لدفع الرئيس أو التأثير عليه لاتخاذ قرارات غير حكيمة. كان يرى أن الاستخبارات تحولت لشيء آخر، ويجب أن تعود كما كانت مؤسسة استخباراتية موضوعية وهادئة ولا تخدم أي أجندات. لقد دعا أيضا إلى أن يحصل الرئيس مباشرة على معلومات خالصة بدون أن تمر على مؤسسات حكومية أخرى قد تعدل عليها.
أي إنه أراد عزل الجهاز عن الأجندات السياسية والحزبية حتى لا ترضخ للضغوط، وتنساق للرغبات والتحيزات الشخصية حيث يسهل بعد ذلك تمرير المعلومات المتسقة مع الرواية النهائية المطلوبة. وفي تقرير خاشقجي رأينا كل ذلك بوضوح حيث يبدو التقرير وكأنه إعادة صياغة مسيسة للتسريبات المكشوفة، التي نشرت سابقا في صحف دعائية مثل التركية يني شفق. ولهذا ينتقد مراقبين هذه المؤسسة وعلى عكس مؤسسات أخرى محصنة باتت مركزا للتسريبات غير الدقيقة ومكانا لأصحاب الأهواء الآيديولوجية. ولهذا تصبح فريسة سهلة حتى لأجهزة استخباراتية خارجية تعرف ماذا تريد، فتقوم بتزويدها بالمعلومات التي تبحث عنها وتخدم مصالحها في نهاية المطاف.
إنها قصة لها تاريخ وليست جديدة وتقرير خاشقجي واحد منها. ثلاث صفحات تحتوي على حفنة من التقديرات التي تفوح منها رائحة السياسات الحزبية الداخلية. ومع هذا لم يحقق التقرير أي خدمة للراغبين في تخريب العلاقة التاريخية بين الرياض وواشنطن التي لعبت عملياً الدور الأكبر طيلة 8 عقود لصياغة النظام الإقليمي في المنطقة الذي نعرفه اليوم (لنتخيل أنها ليست موجودة… سنعيش في عالم مختلف جدا). وهذا كشفت عنه تصريحات المسؤولين الأميركيين بعد التقرير عن المصالح الكبرى التي تجمعهم بالسعودية، وبيان الخارجية السعودية الذي رفض التقرير، وأكد على العلاقة الراسخة القديمة بين البلدين.